مشكلتي عندما أزور المعارض الفنية
أحب الفنون، ومشكلتي الكُبرى أنني أحب الكثير الكثير من الفنون، إلا أنني حتى وقت متأخر لم أتفاهم مع الفنون «المفاهيمية» أو ما يسموها حركة «الفن التصوري». لكنني لا أتحدث اليوم عن الفنون كفنون، إنما أتحدث عن الحالة التي أتفرج فيها على نفسي عندما أزور معارضها!
أتوقف للحظات طويلة أمام الكثير من الأعمال، أتأملها، أتخيل حجم الوقت الكبير الذي قضاه الفنان بالعمل على قطعته أو عمله، وأحاول بعدها أن أقتنع أن هذا العمل ساحر ورائع وسيغير شيئًا ما في هذه الحياة. إلا أنه ومع الأسف، أشعر بعدها واقعيًا وحرفيًا بشعور الأطرش في الزفة. لا أستطيع فعلًا تقدير العمل، وفي الحقيقة لا أعرف كيف أقيمّه! أشعر بعدها أن في فمي ماء، لا أعرف ماذا يجب أن أقول! ببساطة لأنني لا أفهم معظم هذه الأعمال! … وكم مرة أتاني شعور الذنب، أنني يجب أن أثقف نفسي أكثر عنها! … لا أستطيع أبدًا أن أقنع نفسي بالعمل الذي أمامي، رغم محاولتي لمواكبة هذا الأمر للدرجة التي وصلت بي إلى الحالة التي أشعر فيها بصداع كبير مع كل زيارة لأحد المعارض الفنية، بسبب الاستنزاف الذهني غير المبرر.
قررت أن أزور هذه المعارض بشكل غير معلن مع شخص يحبها (ويفهمها، لكي يفهّمني) مثل زيارتها برفقة أخي العزيز (عمر عاشور) أو ابنة أختي الفنانة (رها خريص)، وحتى معهم، لازلت أشعر بشعور الأطرش في الزفة لليوم. تأكدت أن المشكلة مشكلتي أنا، أنا الذي لا أفهم، وأنا الذي لا أستوعب هذا الأمر (رغم أنني أجزم باقتناع العشرات من قراءي الأعزاء أنني قد أكون من المولعين بهذه الفنون ومعارضها وأفهمها أكثر منهم).
ببساطة، لا أفهم معظم الأعمال، ولا أستوعبها، ولا أعرف الإجابة على سؤال: لماذا صرف الفنان كل هذا الوقت في هذا العمل، وماذا يحاول أن يقول من خلال عمله؟ ….
أقف أمام كل عمل وأقول في نفسي: طيب؟ .. طيب؟ .. طيب؟
صدف في إحدى المرات أنني زرت أحد المعارض الفنية بهدف مجاملة بعض الأشخاص اللطفاء معي في هذه الحياة، ووجدت في إحدى الحالات النادرة جدًا عملًا خطف قلبي، مجسم رائع؛ كان متدرج، منحوت على شكل الآية الكريمة «يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ». أعجبني العمل بسبب رسالته المباشرة والقوية، وأيضًا لكِبر حجمه الفيزيائي. كان عملًا لافتًا بالنسبة لي بمعنى الكلمة في ربط التدرج والآية الكريمة.
اكتشفت مصادفةً أن صاحب العمل هو صديقي العزيز وأخي ناصر السالم. الذي أجبرني على الاتصال به والتغزل في عمله الذي كان بمثابة منطاد النجاة في ظِل الطرش الفني الذي أصابني.
المضحك في الموضوع، أن نفس الدهشة واجهتني عندما وجدت لوحة في منزل أخي عمر عاشور، والتي كانت عبارة عن لوحة بيضاء فارغة، باستثناء كلمة مكتوبة في الأسفل «صورة عائلية». يمكن لك تفسير فكرة اللوحة من خلالها لعدة تفسيرات خطيرة، بل أن اللوحة تولد في نفسك مجموعة تساؤلات قاسية مثل: متى كانت المرة الأخيرة التي التقطنا فيها كأسرة صورة جماعية تقليدية؟ .. ولماذا توقفنا عن ذلك؟ … على كل حال، اكتشفت أن اللوحة كانت أيضًا من صنع الفنان العزيز ناصر السالم.
بالتأكيد، لا أسعى أن أكتب هذه الكلمات للتسويق له بشكل مباشر، فأخي ناصر لا يحتاج لذلك؛ إلا أنني أحاول أن أعزي نفسي (وأقول نفسي على الأقل) أن الأعمال الحقيقية ستقف بذاتها بعيدًا عن الازدحام والثرثرة. وشخص بسيط مثلي في محاولاته لقراءة الفنون عندما يحاول قراءتها بزيارته للمعارض سيمتلك حس الانبهار إن كان هناك عمل حقيقي يستحق ذلك (طبعًا بعيدًا عن الافتتان بصاحب العمل والتأثر باسمه).
مشكلتي الأخرى في زيارتي للمعارض الفنية، هو شعوري بهبوط من أشكال وهيئات بعض الضيوف الآخرين، والذي قد يسحَق نفسية إنسانة بسيطة تشعر بنقص قليل في ذاتها، فهاهي تجد أمامها مجموعة من الزوار الآخرين الذين يعتقدوا أنهم هم الفنانين. لباس متأنق جدًا، كميات ساحقة من المكياج والكعوب العالية، وتهيئات نفسية ظاهرة حتى للكفيف. كما كان يؤثر علي في البدايات عندما يشعرني أن هذا المكان ليس مكاني. تشعر في لحظات أن معظم الحضور يريد أن يقول لك «أرجوك أعطني بعض الانتباه، فأنا في معرض فني، وأنا وجمالي أيضًا قطعة فنية».
تجد في هذه المعارض الكثير من الشباب والفتيات الذين يستخدمون مخارج حروف جديدة أثناء حديثهم عن المتعارف عليها من قِِبَل بقية الناس، وتجد بالطبع الكثير من التقليعات التي وفرها صاحبها حتى يطلع بها طلعته في هذه الزيارة.
أذكر أحد الأحبة من الرجال الأربعينيين المعروفين في مجتمع جدة، والذي أخشى أنه لم لكن يعاني يومها من تأثير مراهقتها، كان قد لبِس ثوب قطن أزرق (أقرب ما يكون للأزرق للفسفوري) وهو يحمل معه عصى كريستالية بيضاء (رأيته يومها للمرة الأولى يحملها في حياته) كان قد مر على مجموعتنا التي كُنت أقف معها. صافحني بشدة لافتة، وعرف بنفسه بكل ثقة، ولا أبالغ إن قلت أن كل عضو من أعضاء جسده كانت تحاول أن تقول لنا شيء عن فخرها بصاحبها. ولكي لا يعلق علي أحد القراء الأعزاء بأنني بالغت في وصفي أو أنني حكمت على الآخرين، فقد اختبرت هذا الأمر في تلك الزيارة، عندما كُنت واقفًا في نهاية المعرض مع إحدى أخواتي العزيزات لأقول لها: «أشعر بشعور غريب وأنا هنا، أشعر أنني غلط في هذا المكان!» لتعلق هي بالرد «لا لست في المكان الغلط، أنت في معرض فني، كل الذين يأتون هنا يتأنقون بشكل زائد عن الحد، وطريقة كلامهم وسلامهم تشعرك مباشرة بلسان حالهم الذي يقول نحن خطيرين و Cool ولا يمكنك أن تكون صديقنا».
وبعده التعليق الأخير، عرفت أنني بخير وشعوري لا بأس له، ولست أُلبِّس الآخرين مجرد أحكام واهية.
على كل حال، وعودة لموضوعنا الرئيسي، في ظل وجود الكعوب العالية والمكياج ومراهق أربعيني، والكثير الكثير من لغات الجسد المضحكة. والشباب الخطيرين. لا يمكن أن يستمر منها أمر على حاله مثلما تستمر الأعمال التي تستحق الوقوف وحدها. لتخبر عن أصحابها الذين انشغلوا مع أنفسهم ساعات وساعات طويلة لكي يحاولوا أن يصنعوا الفرق ويخرجوا للعالم بفنون حقيقية.
أخشى أن شعور الغثى أصبح في حالات كثيرة، حقيقي جدًا.
وأخشى، أن لا أكون مستسلمًا للمبالغات التي تدور حول عقلي باستمرار في الفترات الأخيرة.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.