لماذا يُعد الانشغال الدائم من علامات الخوف؟
من المفارقات في حياتي هذه الأيام، إنني أعيش في قمة الانشغال؛ تزامنًا مع ندوة نقاشية سألقيها مطلع الأسبوع القادم، تحمل العنوان نفسه المذكور في الأعلى. ستكون الندوة مع الأفاضل مجموعة «أبجريد» في مدينة جدة، والذين تفضلوا عليا بدعوتهم الكريمة، لثقتهم ربما بإيماني لنمط الحياة المتوازن على المدى الطويل، مهما كان الإنسان مشغولًا بطموحه.
سأكتفي بالدفاع عن نفسي بقول: أن الانشغال المؤقت، لا يشبه الانشغال الاختياري الدائم، الذي حاربته في عدة لقاءات ومقالات سابقة.
أكتب هذه الكلمات، تأكيدًا للفكرة العتيقة التي تقول: إن أردت فعل أي شيء، فستجد وقتًا له. وربما يرى المراقب – مرة أخرى - إنني أُناقض نفسي قليلًا، بسبب غيابي التام عن الكتابة الشهر الماضي، الذي أعتذر عليه لكل قارئ مخلص، ولنفسي قبلها، إلا إن التناقض سببه – آنذاك – ليس الانشغال، بقدر ما هو أبعاد نفسية مصاحبة.
على كل حال، لا يصح أن يؤاخذ الإنسان على التغييرات التي يواجهها مؤقتًا، ولا يصح الحُكم على شيء لا يتّسم بطول المدى. وعودة لموضوعنا، لستُ من فئة المحبين لفكرة الإدمان على العمل، التي ينكر إدمانها الكثير من الغاطسين فيها. ولا أجد – كما يُشير الخطاب المعاصر لتطوير الذات – أن الانشغال الدائم في العمل لفترة طويلة، يوازي ما نُسميه «المثابرة»؛ أو هو وسام على الصدر يجب أن يفتخر الإنسان به.
حضرت جلسة ثقافية لطيفة قبل أسابيع في مدينة الرياض، كان يتحدث مقدّمها الكريم عن الموضوع نفسه من زاوية أخرى، تدور حول فكرة: لماذا أصبحت هويتنا مرتبطة بالعمل؟ أسهب فيها الضيف بالحديث والاستشهاد على فكرة إننا أكثر من أي وقتٍ مضى، أصبحت هويتنا وكينونتنا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعمل المهني الذي نؤديه، لا نعرّف نفسنا في اللقاءات الاجتماعية دون تعريف مناصبنا ومهننا، ولذلك أصبحت قيمتنا مرهونة كثيرًا بهويتنا المهنية، وكلما زادت مثابرتنا فيها، كلما – كما نعتقد – أن مكانتنا ستُصبح أكبر أمام الآخرين.
ومن المفارقات أيضًا التي شدّت ذهني عدة مرات في أثناء الندوة، كانت في وجودنا في وسط غرفة في إحدى المقاهي الجميلة في الرياض، وعندما نظرت حولي، وجدت مشهدًا بديهيًا على ما يبدو للكثيرين، وصادمًا لي؛ وهو وجود قرابة الست غرف من «المساحات العملية المشتركة» كانت مليئة كلها بشباب (معظمهم من الأخوات النساء) يعملون بانهماك وشغف على ملفات مختلفة معروضة على الشاشات الكبيرة. غرفة كانت تستعرض شاشتها ملف إكسيل مليء بالأرقام، والأخرى كانت مكالمة زوم مطوّلة، المتحدّثة من الناحية الأخرى كان وجهها يملأ الشاشة، وكل من في المقهى شاهدها وهي بهيئتها البسيطة وسط صالة بيتهم، شاشة تستعرض خطة عمل لمقهى آخر، وشاشة أخيرة كان يراجع المنهمكين عليها (الذين على ما يبدو كانوا يعملون في إحدى شركات الاستشارات) ملف عرضٍ مطوّل سيتم تقديمه لجهة ما.
الأمر الصادم بالتأكيد لم يكن التجمّع، بل التوقيت.
خرجت من المقهى قرابة الساعة الحادية عشرة مساءًا، وأنا شبه نائم، وكان من الواضح أن الغرف الستة لم تكن تحمل أي مؤشرات تقول إنَّهم على وشك إنهاء اجتماعاتهم. الستة كاملة!
شاركت هذا الانتباه مع إحدى السيدات التي كانت ضمن فريق التنسيق من الحاضرات، وأخبرتني أن هذا هو الوضع المعتاد في ذلك المقهى، وفي كثير من المقاهي الأخرى، ولعلي لا أود أن أتجاوز فكرة المفارقة بإنني كُنت أنصت معها لندوة عن إدمان العمل، ورهن الروح للمسار المهني!
أؤمن جدًا أن حياتنا من المفترض لها أن تكون أكثر راحة مع التطور التكنولوجي الحالي منقطع النظير، إلا إنني لا أرى إلا العكس باستغراب، لا أقدِر على تخبئته. أصبح الكثيرون في هذا الوقت يعملون أكثر بكثير من آبائهم وأجدادهم، وحتى وإن كانت الطموحات قد تجاوزت الأجيال السابقة – وهي كذلك – فإنني لا أجد أن هناك أي مبرر لكل هذا الإنهاك الذي يجعل أي إنسان منشغلًا بهذا الحد في مهام عملية لفترات طويلة من حياته، خصوصًا إن اقترب الفرد من عُمر الأربعين، وخصوصًا إن كان مسؤولًا عن أسرة يُعيلها.
يطول الإسهاب في هذا الأمر، ولذا أتمنى بصدق أن تشاركني الحضور للحديث عن الموضوع إن كُنت من سكان مدينة جدة. وإن كُنت خارجها، فسأعمل مع فريق إنتاج سيقوم بتوثيق اللقاء إن كان يهمك الأمر.
وحتى وقت اللقاء والإسهاب؛ فإنني أدعو لشيء من التأمل واستحضار أن الحياة أكبر من مجرّد مسار مهني. وربما سنتطرّق في مناسبة لاحقة عن الخوف الذي أجد فيه سببًا لكل هذا الانهماك والتضحية.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.