بيت في الريف: هل يكون أغبى حلم مشترك لدى الجميع؟
ما نتمنّاه حقًا، مختلف تمامًا مع ما نعتقد إننا نتمناه
1.أجلس مع صديقي العزيز جدًا الذي يحكي لي عن حلم تقليدي موجود لدى كل الشعوب، وهو امتلاكه لمنزل ريفي جميل يصرف فيه ما تبقى من عمره بعد التقاعد، مستمتعًا بالخضرة، والجو العليل وما إلى ذلك من مفاتن الخالق جلْ جلاله. ويؤسفني إنني قاطعته محطمًا الحُلم، لأخبره بأن هذا «ما يعتقد أنه يتمناه» وليس ما «يتمناه حقيقة». الخيال يملك تأثيرًا ساحرًا علينا، وننسى إننا ننمو، ونسعد، ونرتاح عندما نكون بالقرب من أشباهنا من العائلة والأصدقاء والمجتمع، وحتى الأكل.
2.أذكر أنني قبل أربعة عشر عامًا زُرت مدينة «آنسي» في جنوب فرنسا في شهر العسل، وكان كل من زارها قد بالغ في وصف جمالها وسحر أزّقتها، وبحيرتها، وطبيعتها التي لا تشبه أي شيء، ومن شدة الحماس، قررت أن أخصص لهذه المدينة الجميلة أربعة ليالٍ كاملة، لأحلل الزيارة حتى النخاع، وبالفعل المدينة كانت جميلة جدًا وساحرة، ولكن؛ بعد اليوم الثالث، وبعد أن تمشّينا في كل شبر، وجربنا ما يمكن تجربته من مطاعم، وبعد أن «متّرنا» البحيرة، اكتشفت أن تأثير هذا الجمال أصبح معدومًا. شعرنا بالملل ببساطة! وقد قررنا أن نصرف اليوم الأخير في غرفة الفندق. لماذا؟ لأن المدينة ليس فيها شيء غير هذه الطبيعة الجميلة؛ لا توجد محلات تسوّق كافية تغذي الفضول، ولا مطاعم متنوعة، ولا يوجد فيها أنشطة ترفيهية واضحة المعالم (سوى قارب البحيرة)، وعندما سألت في الجوار، أخبروني أن الأكشن المختلف موجود في مدينة «شامونيه» التي تشتهر بالتزلج، الذي لم أجرّبه حتى اليوم، وهي تبعد قرابة الساعة والنصف.
3.أتحدث مع صديقي العزيز فؤاد الفرحان عن رحلته الأخيرة إلى نيوزلندا، التي أبدع في سرد كل ما هو جميل فيها في سلسلة تدوينات، ويخبرني مختصرًِا رحلته في وصفه لها «جنة الله في الأرض»، ولكن أتبع هذا التعليق بقوله: «لا يمكن لك أن تنسى أنك صرفت ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة من عمرك، منسجمًا مع نمط حياتك الخاص وذكرياته التي عشتها، وصممتها بناءً على رغباتك واحتياجاتك، وعلى من حولك، وتقول ببساطة أنك ستكون سعيدًا إن انتقلت إلى هذا المكان، النفسية وراحة البال لا يشتغلون بهذه الطريقة».
4.ما نتمنّاه حقًا، مختلف تمامًا مع ما نعتقد إننا نتمناه. هذه الحقيقة التي لا مفرْ منها. أستطيع إسقاط هذه الخيالات (التي نعتقد إننا نتمناها) على كل شيء؛ على الزوجة بالمواصفات المحددة قبل الارتباط، وعلى مكان العمل، وعلى الرقم الذي نتخيّله في رصيد البنك، وعلى السيارة التي لطالما حلمنا باقتنائها واقتنيناها. لنكتشف إننا بالغنا في الخيال، أو أن هناك خطبًا ما في اختياراتنا الخيالية، التي قد تتحول إلى أزمة حقيقية، نحاول إقناع أنفسنا بحبها أو بالرضا بها، عوضًا عن تغييرها.
5.أحد الخطابات المضحكة التي وجدتها عند معشر الرجال العزّاب، التي أتيت على سيرتها تكون في اختيار الزوجة؛ حيث يقوم (بعض الشباب) بتفصيل قائمة مواصفات لزوجة المستقبل، معتقدين إنها ما يريدونه حقًا فيها (ناهيك عن إن كانوا مستحقين أصلًا لها). أضحك في كل مرة أسمعها، وأخبرهم بأن أمر الارتباط لا يكون بهذه البساطة، وهذه الدقة التي ستقودهم لحياة سعيدة، بل أن هناك حزمة خبايا تدخل في المعادلة، مثل الانسجام العاطفي، وانسجام الأهالي، واتفاق الاهتمامات، والاتفاق على الخطوط العريضة من المبادئ. ربما قد تكون هناك مواصفات عريضة عامة (محافظة، منفتحة، من قبيلة ما إلخ.)، لكنها هي الأخرى غير مضمونة، ولذا أجد أننا يجب أن نُعيل على الحظ، والوعي أكثر من التشرّط.
6.أملك حزمة كبيرة من الأصدقاء (أصحاب الدخل العالي) الذين قرروا ترك أعمالهم ومناصبهم المرموقة مؤخرًا لأسباب ربما يراها الآخرون مجرد «دلع»، مثل عدم تفهّم إدارتهم واحتوائهم لجهودهم، أو عدم انسجامهم مع ثقافة وبيئة العمل، وعندما تتحدث لمدة خمس دقائق معهم، عن فقدهم للدخل العالي والمنصب الرفيع، سرعان ما يخبرونك «إنَّها ليست كل شيء». بالتأكيد هي ليست كل شيء، ولكن ما أعرفه على وجه اليقين أن هذه النهاية، لم تكن أبدًا في حساباتهم عندما تمنوا هذا المنصب والوظيفة.
أعتقد أن الخبرة والسن، هما الأمران الوحيدين اللذان يقربون الأحلام من الواقع. التجربة المستمرة والاستكشاف عندما يتسلّحون بالوعي، سيعرف الإنسان الفوارق البسيطة بين ما يتمنى، وما يعتقد أنه يتمناه. وقد أشجع على فكرة عدم التمسّك بشكلٍ مستميت لما نعتقد أننا نتمناه، كما هو الحال مع صديقي في النقطة الأولى، ومن الأجدى أن نركن الإيجو على جنب في هذه الحالات، لنكمل الاستكشاف. ونعيش حياة مرضية. والله أعلم.
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.