ما أعرفه على وجه اليقين (ملفات القرّاء رقم ١)
هنا بداية مشروع سلسلة مقالات ستُخصص للإجابة على أسئلة القرّاء.
الاستاذ أحمد، شكراً على النشرة البريدية. أنا فعلاً أستمتع بـقرائتها دورياً.
في بريد اليوم طلبت من القراء ارسال سؤال اليك - وهذا سؤالي:
مقدمة: عندما أنهت أوبرا وينفري برنامجها الذي استمر لفترة طويلة، شاركت العديد من أعظم دروس حياتها ثم وضعتها جميعًا في كتاب بعنوان "What I know for sure". نظرياً، يمكنك أن تتعلم شيئًا من كل شخص يمر في طريقك. سيُخبرك بعض الأشخاص عن أمور لا ينبغي عليك فعلها، وسينقل إليك آخرون القليل من الحكمة التي تعمل على تحسين حياتك. لذا فإسؤالي لك استاذ أحمد هو: ما الذي تعرفه يقيناً؟
مع التحية
عزيزي علي،
أشعر بالحزن والفرح أحيانًا أن هناك كثير من القناعات التي تتبدّل وتتغير. لا يستطيع الإنسان أن يكون متماسكًا طيلة الوقت لما يعرفه على وجه اليقين. سألني صديق عزيز في جلسة حوارية الأسبوع الماضي في معرض المدينة المنورة للكتاب ٢٠٢٤، عمّا يجب أن يفعله الكاتب، إن كتب شيئًا، وتبدّلت قناعته تجاه ما كتبه بعدها بسنوات. وفي الحقيقة يؤسفني أن إجابتي لم تكن شافية (على الأقل بالنسبة إلي). على كل حال أخبرته إنني تسلّحت بشيء من المرح في انتقاد نفسي أمام الملأ إن تأكدت أن قناعتي قد تغيّرت في مواضع كتابية مستقبلية. والأمر الآخر، هو إنني أحاول (على الأقل في كتابة الكُتب مثلًا) أن أتناول مواضيعاً لا تتغير خلال السنوات العشر القادمة. تعلّمت هذا الأمر من الكاتب نسيم طالب، عندما سأل سؤالًا في إحدى محاضرات جوجل، وهو: «كيف تضمن أن فكرتك ستستمر لمئة عام مقبلة؟» وكان جوابه: أن تختار بداية فكرة عمرها أكثر من مئة عام، فطالما إنها موجودة إلى الآن، فعلى الأغلب ستستمر مئة عام أخرى.
عمومًا، هنا إجابتي لبعض ما أعرفه على وجه اليقين، حتى الآن:
- في العمل: الجهد الكبير لا يضمن نتائج كبيرة بالضرورة. كلما ازدادت تجربتي العملية، كلما زاد الدخل، وتقلّصت المهام اليومية. ربما يكون خلف هذا الأمر شيء من الحظ السعيد، إلا أنه في المقابل تزداد معه المسؤوليات بشكلٍ طردي. ففي بداية الحياة العملية الجهد الكبير يكون فيه شيء من التوازن مع المتطلبات والتوقعات. الكفاءة أهم من حرق النفس. أعني بالكفاءة استمرار تعليم الذات في كل شيء والبحث عن حلول بشكلٍ مباشر وسريع.
- على العكس في الفنون: الاستمرارية أهم من الإتقان. تتجدد هذه القناعة عامًا بعد عام، وما أعرفه على وجه اليقين أن الكثير من العمل في الفنون قد لا يخلق أعمالًا أفضل، بقدر ما يخلق لك فرصة أفضل لإيصال فنونك للأشخاص الأصح في التوقيق الصحيح. هناك الكثير من الحظ المخفي هنا، ولكن لا شيء يجوّد أعمال الفنانين مثل الاستمرارية.
- في الحياة الاجتماعية: الأهل ثم الأصدقاء يجب أن يكون لهم الأولوية القصوى. ما أعرفه على وجه اليقين أن جودة الحياة ومعناها لا يتحققان دون وجود من نحبهم. لا قيمة لأي عمل دون علاقة ونسيج اجتماعي متماسك. ولذا أحرص دومًا على حضور كل المناسبات الاجتماعية (قدر المستطاع) القريبة والبعيدة، وأحاول ألا يكون أي شكل من أشكال الأعباء العملية مانعًا لهذا الأمر، بالتأكيد في هذا الأمر شيء من الصعوبة إلا أن الحِرص يخلق أيضًا نوعًا من الانضباط. تخيل أن يكون لديك مئات الملايين من الريالات دون وجود من تحبهم ويحبونك؟
- الراحة المُطلقة ضرب من الجنون. التقاعد.. أخاف منه على قدر تغزّلي به. وما أعرفه على وجه اليقين أن كل من فقدوا رغبتهم لتحقيق شيء في هذه الحياة، فقدوا رغبتهم في الحياة، ولذلك سأشجّع نفسي ومن حولي بضرورة امتلاك شيء أو هدف نصبوا إليه في حياتنا، مهما كان هذا الهدف بسيطًا أو بعيدًا. وتظل الرحلة أهم من الوجهة.
- لا قيمة للمال إن لم تمتلك الوقت. جربت في حياتي تقلّبات عملية ومهنية كثيرة، حتى وجدت «مورجان هوسل» يلخّص مفهوم الثروة فيها عندما أشار أن «الثروة الحقيقية قد تكون في امتلاك الإنسان النسبة الأكبر من وقته، بدلًا من رصيده». هذا أمرٌ أعرفه - مؤقتًا - على وجه اليقين، باشتراط أن يكون الإنسان قد غطّى أساسيات متطلبات حياته. فلا قيمة لوقت طويل دون القدرة على الإيفاء بالالتزامات.
- الرأسمالية تسعى لخلق المزيد من العُزّاب. لأن هذا الأمر شديد الفائدة لكل الأعمال. يصرف الرجل الكثير من المال على «الأشياء» إن لم يمتلك الكثير من «المعنى». وما أعرفه على وجه اليقين أن المسؤوليات هي أكبر شيء يُعطي الإنسان قيمة، ولذلك دائمًا ما أتذكّر أن على الرجل السعي للحصول على الاستقلالية أكثر من الحرية، والسعي للحصول على مزيد من المسؤوليات بدلًا من الهروب منها، كما عليه الحِرص على أن يكون صمامًا للأمان لكل من حوله، بدلًا من أن يكون مصدرًا للترفيه.
- الدين، روح هذه الحياة. بعيدًا عن التنظير، لا أتخيّل حياة سوية لأي إنسان لا يؤمن بخالق لهذا الكون. وما أعرفه على وجه اليقين أن شيئًا كبيرًا في الروح يختفي إن اختفى الإيمان. ومن حسن الحظ أن الدين الإسلامي كما أراه دينًا متماسكًا حقًا، يجعل حياة كل إنسان مؤمن به أكثر طمأنينة.
اسأل: ahmad@amoshrif.com
النشرة الإخبارية
انضم إلى النشرة الإخبارية لتلقي آخر التحديثات.