تخطى الى المحتوى

مشكلة العيش في الخيال والعيش في الواقع

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف

قدرة الإنسان على التخيل نعمة لا شكْ فيها، وقدرته على التعايش والقناعة والسلام الداخلي مع (مطبّات) الحياة نعمة أخرى لا شكْ فيها. ولكن..

يهرب الإنسان في خياله عمّا لا يريد مواجهته في حياته الواقعية، ويتجنب لأقصى درجات التجنب مشاكله وتحدياته حتى يصل أحيانًا لمرحلة الإقصاء التام، كما يؤمن الطبيب النفساني «إم سكوت». وذلك الرجل مهما كان متطورًا وذو استطاعة، فهو يميل إلى التجنب وعدم الاستمرار بالوقوف أمام كل مشكلة بصدق، ومع الأسف.. ذلك الرجل هو كل الرجال.

لكن.. ماذا سيحدث إن استطاع الإنسان أن يعيش في خياله من أجل أن يعالج واقعه؟.. ماذا سيحدث إن استثمر في الخيال من أجل سعادته على أرض الواقع؟

عندما يُصاب الفنّان بحالة الاقتناع التام بأنه يريد أن يكمل حياته وهو ممارسًا لفنه، فهو يقول بشكلٍ غير معلن أنه يريد أن يعيش حياته ورغباته كما يريدها بحذافيرها.. لكن في عالم الخيال. هناك لا يوجد من يحاسبه، لا يوجد من يحكم عليه ويختبر وقاره وصبره، هناك لا يوجد بالنسبة له الكثير من الأغبياء، ولذلك يعيش بقية عمره بحثًا عن حياته وذاته بين لوحة يرسمها أو كلمات يكتبها، أو أغنية يلحنها. يعيش حياة أخرى.

هناك.. يخرج الفنّان أمراضه وأحلامه وقناعاته التي لا يحتملها هو نفسه عندما يكون إنسانًا على أرض الواقع.

[tweet_dis]هناك في الخيال.. يرى الرجل نفسه أخف وزنًا، وبين العشرات من النساء، وبالطبع ليس أصلعًا أو مريضًا، أو مهمومًا بمشاكل ليس له علاقةً بها.[/tweet_dis] وبهذه الفسحة والفرصة من الخيال، يعيش نعمة من أهم نِعم الله عليه في حياته عندما ينقلب الخيال ليصبح تارًة أمل.. وتارًا تصبيرة.. وأحيانًا يشكل الخيال مع الأمل أقصى درجات الحماس في النفس البشرية، ليرى أمرًا كان خيالًا وأصبح واقعًا. حماس المفاجآت والإنجازات لم يكن سيكون ممتعًا إن لم يسبقه خيالٌ واسع، والعكس صحيح، عندما تقتلنا هموم الواقع إن لم يكن هناك خيال يجعلنا نتعايش معها بالطول والعرض، أو كما يقول الطغرائي «أعلل النفس بالآمال أرقبها.. ما أضيق العيش لولا فُسحة الأملِ».

مشكلة الحياة الواقعية، أنها ليست واقعية متفردة تمامًا لدى كل إنسان لوحده. فهي تُبنى وتُعاش في غالبها من أجل عيون الآخرين. والمفارقة، أن الواقع يُقاس بشيء خيالي، وهو رضى وحب الآخرين.. والخوف منهم، والخيال فيه يتشكّل في إرضاء كل ما يراه الآخرين.. وهذا الطموح ليس إلا خيالًا في نهاية الأمر.

الحياة الواقعية دون مساحة كبيرة من الخيال تقود الإنسان لأن يعيش مثل الدابة.. تأكل وتشرب وتنام ولا تبحث عن أقصى استغلال لقدراتها العقلية. تُفضِّل أن تتعايش مع «العقل الجمعي» اتقاءً للمخاطر والأحكام والأغبياء. ولسان الحال يقول: إن كنت مثل البقية.. إذًا فأنا موجود.

من يتقن الخيال.. لا يود أن يعيش نصف حياة.. لا يريد أن يكون ضمن وصف جبران:

«نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك، نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة. النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان.»

هناك من يتخيل فقط، وهناك من يتقن الخيال لحياة أفضل. من لا يتقن الخيال لا يعيش واقعًا أفضل. ولا يعيش حياة دون عُقد أو أمراض في عقله.

من لا يتقن الخيال.. سيتقن الخوف.

سيكلوجيا الإنسانمقالات عن سلوك الفنانين

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟
للأعضاء عام

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة

«ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تعاش؟ لا يوجد طفل يسأل نفسه هذا السؤال. بالنسبة إلى الأطفال، الحياة واضحة بذاتها. الحياة غنيّة عن الوصف: سواء كانت جيدة أو سيئة، لا فرق. وذلك لأن الأطفال لا يرون العالم، ولا يلاحظونه، ولا يتأملون فيه، ولكنهم منغمسون بعمق في العالم لدرجة أنهم

لا يسأل الأطفال عن معنى هذه الحياة
للأعضاء عام

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع

في عام الكورونا، زرت هذا المكان أكثر من أربع عشرة مرة. لا أحد أعرفه زاره بنفس القدر.

مكان الغرباء والأحلام خلف الجميع