تخطى الى المحتوى

الفرق الحقيقي بين الهاوي والمتخصص

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
الفرق الحقيقي بين الهاوي والمتخصص

في نقاشٍ ثري مع أخي العزيز عمر عاشور قبل يومين، توصلنا إلى قراءة حول مفهوم التخصص:

  1. عندما نستعرض سيرة العُظماء في التاريخ (الإسلامي على وجه الخصوص) ربما لا يسعنا إنكار التميز الحقيقي الذي صاحب الكثيرين منهم من زاوية ابتعادهم عن التخصص، والذي نُنادي به في زمنٍ يمكن للإنسان فيه أن يكون شديد الاطلاع وغزير العِلم مع وجود الموارد غير المحدودة. فتجد أن تقديرنا (وأحيانًا تقديسنا) للكثير من الشخصيات القديمة يصاحبها تناسيًا واضح بأنهم لم يكونوا أصحاب تخصصات حقيقية، وربما أول ما يتبادر إلى ذهني هي سيرة الإمام أبو حنيفة، الذي عُرف عن أنه تاجر ناجح قبل أن يكون فقيهًا. وفي ٢٠١٨م تجد نفسك عند أول اصطدام نقاشي مع شخص آخر حول فكرة ما، سيقوده الحوار إلى ذِكر «أنت لا تملك العِلم الكافي، أو لست صاحب تخصص» ولسان حاله يقول «أقول.. خلك ساكت بس!»، كرد مقولب جاهز يحمل إقصاءً لمحاولاتك الفكرية أو البحثية أو حتى مجرد محاولات النقاش، أو للدفاع. (أذكر في حادثة طريفة عندما التقيت بمدير إحدى الجامعات لأقنعه بمفهوم العمل كفنان مع محاولات لمشاركتهم كتاباتي ومفاهيمي البحثية في هذا الشأن، كان رده المباشر: «لماذا أحتاجك ولدينا عشرات الدكاترة في اللغة العربية والأكاديميين المتخصصين؟»)
  2. ابن رشد كان طبيبًا وفيلسوفًا وقاضي وفلكي وفيزيائي.. وقبل ذلك كله كان إنسانًا شديد الفضول، يوجد منه نُسخًا عديدة شابة تعيش اليوم، يتم إقصاءها بحجة عدم التخصص، وبالتالي عدم وجود داعٍ أو فرصة للكلام أو النقاش كما قلنا. (اقترح أن تأخذ بعض الوقت لاستكشاف عشرات الأسماء الأخرى لعلماء عرب ومسلمين لم يحملوا عِدة تخصصات أو اهتمامات كانوا قد ساهموا بالتغيير).
  3. عندما تسترجع سيرة السير «ونستون تشيرشل» ستجد أن تخليده للأثر وحصوله على جائزة نوبل للآداب عام١٩٥٣م، لم يكن بسبب إنجازاته الساحقة في إنقاذه لوطنه من الحرب العالمية الثانية مع حلفائه ضد «هيتلر»، وليس بالطبع من إنجازه للوحاته التي رسمها (رسم في إحدى السنوات أكثر من أربعين لوحة)، وليس لمئات المقالات التي كتبها منذ شبابه حتى توفي في الثمانينات من عمره أو إدمانه للكحول والمقامرة. بل أن نوبل قد سُلِّمت له تقديرًا لجهوده الأدبية والتي تمثّلت في المجلدات ذات الستة أجزاء عن الحرب العالمية الثانية (جرب وحاول أن تبحث عن شهاداته التخصصية).
  4. هل أقترح اليوم بعدم الاكتراث للتخصص؟ بالطبع لا؛ لكن أود لفت النظر بأن الاكتراث للفضول وتساؤلات العقل مهما كان تخصصك يستحق ألا تقف موقف المدافع والكسول الذي يخبر نفسه والآخرين «أنه ليس صاحب تخصص». بل أن النقطة التي أثارت اهتمامي في النقاش كان في رأي أخي عمر عندما قال وغرد لاحقًا بها «الهاوي لا يعرف قيود التخصص، ولذلك معظم التغيير من فجر الزمان كان على أيدي الهواة»، وهذا الكلام صحيح إلى حدٍ بعيد. جرب واختار مجموعة من الأفكار التي غيرت التاريخ، وأكرر أنك ربما ستتفاجأ بأن الكثير منها لم يكن قد خرج بالضرورة من أشخاص متخصصين.
  5. قضيتي مع التخصص البحت واتباع الشغف الأوحد في حياتنا العملية، أنه لا يقود الإنسان للركض خلف فضوله وأفكاره التي تشاغب عقله –كما ذكرت في مقالة سابقة-، إلا أن الإنسان من وجهة نظري يجب أن تستجيب رغباته وأبحاثه للسعي خلف الحقيقة بعيدًا الاعتقاد أن التخصصات دائمًا وأبدًا هي التي تُعطي الحق للآخر في إقصائنا. ويجدر الذِكر هنا أن الإفتاء دون عِلم لا أعتبره أبدًا نوعًا من عدم التخصص بقدر ما هو جهلٌ مركب، قد يشعر صاحبه بوهم إنجاز أو اعتقاد راسخ بأنه شخص فهيم. والعكس صحيح.. الفضول دائمًا ما يتوقف كخصم لمحاولات التفلسف والإفتاء، أو حتى التسليم الراسخ لما قاله شخص ما آخر في مكان ما قبل مئات السنين.
  6. الفضول عندما يوجد.. يجب أن يتصاحب مع البحث والتقصي والوصول للحقيقة أو القناعة، إن كُنّا أصحاب تخصص أو لا.
سيكلوجيا الإنسانعن العمل وريادة الأعمالمقالات عن سلوك الفنانين

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

تريد سرًا كبيرًا من أسرار الإنجاز؟

عليك بالكلاحة

تريد سرًا كبيرًا من أسرار الإنجاز؟
للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟
للأعضاء عام

في تعليق الشهادات على الجِدار

يعترف لي صديقي العزيز قبل أيام، أنه بعد قراءته لكتاب «وهم الإنجاز»، قام بإزالة كل الشهادات التي حصل عليها في حياته المهنية من الجدار خلف مكتبه. ويعتقد مازحًا إنني كُنت سببًا لكسر فرحته بها. صديقي هذا من خيرة الشباب الناجحين (وشديدي التهذيب)، وبعد أن اعترف، أخبرته بصدق