الشهر: نوفمبر 2019

  • الكلمة الأولى هي الأصح

    كثيرًا ما كان يشجع الكاتب راي برادبوري تقنية الإسراع في الكتابة، لظنه أن الحدس هو من يكتب عوضًا عنّا.

    وهنا أجد أنه في محاولتك للتعبير عن أي شيء وأيًا كانت الوسيلة، فإن الكلمة الأولى التي تأتي في عقلك على الأغلب هي الكلمة الصحيحة للتعبير عنك. يستطيع من يمارس الكتابة المنتظمة استشعار هذا الأمر بعد مدة، ويعزز هذا الرأي الروائي الكبير ستيفن كينج في كتابه الشهير «عن الكتابة».

    ذلك لأن التعبير المباشر من العقل إلى الورقة أو اللسان هو انعكاس لما نفكر به لحظتها؛ وحينما يتوقف الإنسان للبحث عن كلمة مناسبة فهو بذلك يحاول أن يرسم الكلمة عوضًا عن الاكتفاء بقولها.

    وبالطبع ليس هناك عيب هنا؛ إلا أنني من المدرسة التي تُشجع قول الحقيقة بشكل مباشر دون أي محاولات رسم، ولو أن هذا الأمر بالغ الصعوبة إن أخذنا في الحُسبان مشاعر الأخرين والطريقة الأنسب التي يجب علينا اتباعها للتعبير، في محاكاة للاقتباس الأجنبي المعروف «ليس مهم ما تقوله، إنما المهم كيف تقوله».

    القراءة المستمرة والاطلاع الغزير على المفردات الجديدة تساعد على جعل الكلمة الأولى في العقل هي الأصح، عوضًا عن كونها صحيحة للتعبير.

    وربما أجد أن خلاصة القول لا تخرج عن أهمية الانتباه للكلمات الأولى التي تأتي في الذهن.

    الكلمة الأولى لا تخونك.

    كان الله في عون الجميع.

  • الحياة السعيدة: في اختيار الألم المناسب

    النقاش عن السعادة من أبسط وأعقد المواضيع، سبب التعقيد هو أن كل إنسان في هذا العالم يرى السعادة من منظور مختلف، ويرى أسبابها ومعطّلاتها أيضًا بشكل مختلف؛ أما البساطة فيها: فهي إمكانية استشعارها، فالإحساس بالسعادة بشكل مجرّد شبه متقارب عند الجميع.

    أود التذكير بأن السعادة مختلفة عن «الاستمتاع». فالأخيرة مؤقتة ومرتبطة بظرفي الزمان والمكان، أم السعادة فهي رحلة (أو جزء من رحلة). وهي ما أود التحدث عنه.

    تدفع مدرسة العالم النفساني المعروف «ڤيكتور فرانكل» إلى ضرورة البحث عن حياة «ذات معنى» أكثر من الحرص على السعادة، لأن (السعادة) شديدة التغير والتذبذب، أما المعنى فيبقى للإنسان سواءً كان سعيدًا أم تعيسًا، وهناك طُرق كثيرة لبحث الإنسان عن المعنى في حياته.

    ومن باب التوضيح: أخترت مثلًا أن تكون لحياتي العملية معنى من خلال ممارسة الكتابة بشكل منتظم وتغيير شيئًا ما في حياة شخصٍ ما من خلالها. ولن يكون لها معنى دون الاستمرار في الكتابة.

    وللدخول إلى عنوان المقالة اليوم، يرى الأخ الكريم «مارك مانسون» أن الحياة السعيدة يجب أن ترتبط ارتباطًا وثيقًا في اختيار الإنسان لنفسه عن أفضل ألم يتحمله ويرغب أن يعيش معه لبقية العمر.

    فعندما يقرر شخص ما أنه يريد أن يصبح لاعب جولف أو مُلحن، دون أن يقبل الألم المصاحب لهذا القرار كالتدريب والصبر والسفر ومعاشرة زملاء المهنة والتواصل الكبير مع المدربين، فسيتحول القرار بعد مدة إلى مضيعة للوقت وإهدار مباشر للجهود.

    وفي المقابل، عندما يريد أي إنسان أن يصبح كاتبًا مثلًا، فإن الألم المصاحب لهذا الاختيار هو الجلوس لساعات الطويلة على شاشة الكمبيوتر ليكتب بعيدًا عن الناس، مع تقبّل وسعة صدر كبيرة للانتقاد، إضافة إلى المحاولة المستميتة للاستمرار في الكتابة وعدم الانقطاع عن القراءة، وطبعًا الابتعاد عن الطموحات المالية الكبيرة.

    هذه العناصر لا يستطيع الإنسان الذي لا يحب الكتابة ولا يحب ألمها أن ينجح فيها. فالكثيرين يرغبون في أن يكونوا مغنيين، وطبّاخين محترفين وكُتّاب وتجار.. ولكن القليلين من يُحبِبوا أنفسهم للألم المصاحب لهذه الأمنيات. أو كما قال إسحاق آسيموڤ واصفًا طموح الكتابة «يجب أن تُغرم في الكتابة، وليس الكتاب بصورته النهائية» وهذا صحيح.

    أجد أن اختيار الألم المناسب يمكن إسقاطه على جميع جوانب الحياة، فهناك الحِرمان من الصحة مع فرحة الأكل المضر المستمر، وهناك ألم حِرمان من الوجبات السريعة مقابل الحصول على صحة أفضل.. ويبقى السؤال الأهم في هذه المعادلة: أي ألم ستختار؟

    قبل فترة، كان لي شرف الحصول على فرصة الانضمام إلى فريق عمل مهم براتب مُجزٍ جدًا (يفوق ما أجنيه حاليًا بأربعة أضعاف)، وكان الألم المصاحب لهذا القرار إن قررته: هو التخلي عن حريتي في العمل الخاص وفي التنقل والإجازات مع إنقاص ساعات الكتابة خلال اليوم، وعدم القدرة على زيارة أسرتي في فلوريدا. وفي المقابل.. الحصول على مال وفير. وفي الحقيقة، لم يكن الألم مناسبًا بكل صراحة.. فالحرية والتنقل والكتابة مقابل ألم التخلي عن بعض المال الوفير كان يمثل ألمًا مقبول جدًا.

    رحلة البحث عن الألم لا تبدأ من الأحلام والطموحات الشخصية، بل تبدأ حسب فهمي من شكل اليوم.. يومًا بيوم. وجدت ربما أن الوسيلة الأفضل للاقتراب من حياة سعيدة ذات ألم مقبول، هو بتخيُّل الإنسان لشكل يومه. وكل يوم.

    في تجربتي، ألم الكتابة هو الانقطاع التام عن الآخرين معظم الصباحات حتى وقت الظهيرة.. لبقية حياتي. والسؤال هنا: هل هذا الأمر مقبول بالنسبة لي؟ نعم، مقبول. للآخرين؟ لا أعلم ولا يهم بكل صراحة.

    إحدى آلام الكتابة الأخرى هي الانتقاد، وعدم توقع النتائج لما تم كتابته. هل هناك مشكلة في التعايش مع هذه الآلام؟ لا، لا توجد لدي مشكلة.

    وهكذا.. أخترت آلام الكتابة لأعيش معها.

    اختيار الألم، يجب أن يقارن بشكل دقيق بين الألم الحالي والألم الموجود في الضفة الأخرى، والبحث عن إجابة السؤال: أيهما أقرب إلى قلبي؟

    في استقالتك من الوظيفة لممارسة نشاطك الخاص، هناك ألم التحديات المالية وعدم وجود الأمان في حياتك.. والسؤال هنا: هل لديك مانع؟ إذا كنت من الأشخاص غير المستعدين للتعامل مع ألم نقص المال، فيجب أن تتوقف لاستجواب الآلام المحتملة.

    فكرة الخروج من منزل الأهل لتعيشي وحدِك يصاحبها أحد ألمين: ألم فقدان الدعم، مقابل الحرية أو الحرية مقابل ألم تحمل المسؤولية بشكل مطلق.

    يسهُل اختيار قرار الألم هنا عندما نتخيل شكل حياتنا يومًا بيوم، ومنها للمستقبل مع طموحاته.

    فكرة اختيار الألم المناسب فكرة عبقرية من وجهة نظري للبحث عن سُبل للعيش في هذه الحياة، لأن الناس ببساطة اعتادت عن البحث عن المزيد من كل شيء دون السؤال عن الألم الذي المُتطَلب لجلب هذه الأشياء، ودون التساؤل عن أهميتها وربطها بمعنى حقيقي للحياة.

    الكثيرين يرغبون أن تصبح أجسامهم أقوى، وشكلهم أفضل، وشهرتهم أكبر. الكثيرين يريدون أن يكونوا أباءًا أفضل ويمتلكون ثروات ومقتنيات أثمن. لكن لا أحد يرغب أن ينظر إلى الألم المصاحب لكل تلك الأشياء. هم يريدونها فقط.

    البحث عن الألم المناسب لنا، يقودنا لإجابات أكثر وضوح لما نريده بالفعل في حياتنا. لأنه وفي المقابل عندما نبحث عن المزيد من أشياء كثيرة؛ فإن الخيارات تصبح لا محدودة، ونميل فيها للبحث عن كل ما هو متوفر في هذا الكون وصالح للاقتناء دون الانتباه لما يمكن أن نضحي به من وقت وألم.

    اختيار الألم المناسب لكل يوم، الخطوة المنطقية في نظري، ومنها لحياة أفضل.

    ترددت في الكتابة عن هذا المفهوم، نظرًا لتأثري به مؤخرًا ورغبتي الجامحة في التحدث عن فكرته طيلة الوقت ومع كل شخص أقابله. فعندم تستمر الأفكار في القفزان داخل العقل، وتظل ترمي بنفسها أمام طاولة الجلوس مع الأصدقاء، فهي تقول لصاحبها: أخرجني من عقلك. وها أنا أرمي بها لقارئي العزيز الآن.

    كان الله في عون الجميع.

  • اتصال المصلحة

    لا أعترف باتصال المصلحة، فلا يتصل بك إلا من احتاج لك، وطبيعة الإنسان تقوده دومًا لتقبّل شعور أنه مرغوب من الآخرين حتى وإن كان لمصلحة.

    كل الفرق ينحصر داخل دائرة الرصيد الذي بنيته مع الآخرين؛ فإن كنت مهذبًا ولطيفًا وأبديت رغبتك المستمرة لخدمتهم فسيسعدون بك، وسيُسعد أبناءك بخدمة الآخرين لهم من أجلك. وإن كنت العكس، فردة الفعل تتماشى معها.

    البارحة تناولت العشاء مع صديقين في أحد المطاعم، التي فاجأنا مالكه بدفع الحساب وفاءً لعلاقته بوالد أحد الصديقين، ليعيد أكثر من ثلاث مرات لصديقي «أرجوك، سلّم لي على والدك كثيرًا».

    والد صديقي (الكابتن سالم باقادر) لا يُعرف عنه سوى أمرين: معاشرته المحببة لقلب لكل من حوله، وحرصه على خدمة الآخرين دون انتظار المقابل.

    هذا اللطف طال أبناءه.. وأصدقاء أبناءه.

    اللطف، يجعل منّا كمتصلين ومستقبلين للاتصال دومًا في دائرة من لا نخشى أن نخدمهم ونطلب منهم المساعدة.

    كان الله في عون الجميع.

  • هل تتذكر الأمور المستعجلة؟

    عام ٢٠٠٨م، كانت السنة الأولى لي في تأسيس أول مشروع خاص عملت عليه. أتذكر الآن في أحد الأيام الوقت الطويل الذي صرفته على العمل في مُهمة ما، اضطرتني للبقاء إلى الساعة العاشرة ليلًا في المكتب. كان يومًا شديد الإرهاق، وكنّا نمر بأزمة ما. مستوى الضيق كان مرتفع، وهذا الجهد الذي جعلني أبقى حتى الليل في المكتب كان يشعرني بشكل ما بالرضى، لأنني أمام نفسي أُمثل صورة الشاب الطموح المجتهد.

    وحتى وقت قريب، كنت أؤمن أن الحياة تحتاج لجهودٍ استثنائية حارقة لكي ننمو فيها، ونكبر في طموحاتنا، صحيح، ولكن..

    تلك الشركة التي صرفت فيها -ليس تلك الليلة فقط-؛ إنما ليالٍ عديدة متأخرة، وجهودًا كبيرة، أصبحت قصة وانتهت وأُقفلت وفشلت. والتفاصيل.. لا أتذكر منها شيئًا سوى أنني عملت بمجهود كبير في غير مكانه الصحيح.

    معظم شؤون العمل في تلك المرحلة كانت مستعجلة؛ رواتب الموظفين، مشاكل العملاء، إدارة العُمال، مشاكل الرخص الرسمية، واختلاس أحد الموظفين، وغيرها من الظروف التي كانت تقود دفة الحياة. لم أكن مستمتعًا بالعمل، لكنني كنت أشعر بالرضا، وفي كل استجابة وحل لمهام مستعجلة ومرهقة يزيد إحساس الرضا.

    وبعدسة اليوم، وجدت أن الحياة وقتها لم تكن تحتاج لكل هذا الوقت والجهد والسهر. ولا أذكر مرة واحدة عميلًا أو مشروعًا استحق استنزاف الأعصاب والتوتر والحرق.

    الرضى بعدسة اليوم عن ذلك الوقت كان مزيفًا.

    الأمور المستعجلة إن كثرت في حياتنا، تخرجنا عن قيمتنا، نضطر للاستجابة للظروف كالآلات، لاعتقادنا أننا محور الكون.

    والكون في الحقيقة لا يستحق كل هذا الضغط، لأن الحياة ستستمر.

    ولكي ننمو، أعتقد أننا يجب أن نختار دومًا «المهم» قبل «المستعجل». كل يوم، ودون توقف.

    كان الله في عون الجميع.

زر الذهاب إلى الأعلى