الشهر: أبريل 2022

  • أونكل جاك – الجزء الثاني: مقالة ساخرة

    (هذه القصة مستوحاة من أحداث حقيقية، وهنا الجزء الأول).

    بعد أن باشر صديقي في بناء رصيد عِشرة العُمر مع نسبائه الأجانب عبر كسر شجرتهم التي ربما تجاوز عمرها مئة عام في حيّهم، مع تهشيم زجاج السيارة الفخمة التي حاول بها أن يكسب بعضًا من التقدير من عيونهم باستئجارها؛ مثلما يفعل الكثير من العِرسان من تصرفات في بداية حياتهم الزوجية أمام أهل العروسة (والفشخرة ليست آخرها).

    مشى حال الليلة الثانية على خير.

    وقررت الأُسرة احتفاءً بابنتهم مع عريسها الذي أشعر الجميع بالتوجّس، أن يقوموا بخلق جدول طويل عريض من الفعاليات الصيفية، كان منها: التجوّل في الأرياف، والسفر إلي مدينة باريس (عبر القطار الشهير تحت الماء)، والذهاب إلى حفل غنائي. كل فعالية منها كانت مع مصيبة تصلح لمقالة منفصلة.

    يعتقد الكثير من الرِجال أن استعانتهم بأي نوع من أنواع المساعدة فيه تهديد حاد لرجولتهم، سواءً فيما يخص المهام المهنية المعقدة، أو حتى سؤال شخصٍ مار في الشارع عن محل تائه عنه. فالرجال كما تعلمون.. يعلمون كل شيء، ولا حاجة لتدخلات خارجية.

    وعندما يتعلق الأمر بامتياز خاص بالرجل (السعودي أكثر من غيره) فالتهديد يصبح مضاعفًا، كقيادة السيارة مثلًا، فإن أعطيته تعليقًا سلبيًا على قيادته التي يقوم بها منذ عشر أو عشرين سنة، قد يسكت بدافع الاحترام، إلا أنه يقاوم داخله رغبته في شتمك، ومن الأفضل للجميع ألا يكون المنتقد سيدة حديثة العهد بالقيادة.

    بالنسبة لصديقي فإن موضوع القيادة كان أكثر تعقيدًا من ناحية نفسية. فهو أمام عروسته الآن وأهلها وأونكل جاك شديد الوقار، ومقعد السائق على اليمين لأنهم في بريطانيا، وبالطبع لن تناسبه أي محاولات اقتراح لقيادة السيارة بدلاً عنه إلى الأرياف حرصًا على «الإيجو» الذي كُسرِ جزء منه مع كسرة الشجرة، وها هو مشوار طويل الآن قد يساهم بتعويضه عمّا حدث إن تسلّح ببعض الكرم وخفة الدم، والدعاء أن ينسى الجميع ما حصل في البيت.

    لندن مدينة مشي على الأقدام من الطراز الأول، شوارعها صغيرة، واستخدام مترو الأنفاق أكثر عملية من أي وسيلة تنقل أخرى، وإن عانيت ببعض الإرهاق من المشي أو كانت ميزانيتك تحتمل بعضًا من الترفيه، فركوب التاكسي أو «أوبر» هو الخيار الأفضل. إلا أن صديقي يود أن يكون معه سيارة. لأن طول فترة المكوث، ووجود رحلة في بداية قائمة الفعاليات مبرران لا بأس بهما للاستئجار.

    استعدت الأُسرة للتحرّك، تم توزيع الأغراض على السيارات، يقترح أحد أفراد الأسرة على صديقي أن يقوم بالقيادة نيابة عنه، لمعرفته بسير خط الرحلة (خرائط جوجل لم تكن متوفرة آنذاك) ناهيك عن موضوع القيادة على الجهة اليُمنى الذي قد يسبب بعض الإرباك، وطبعًا نوع من المجاملة للنسيب الجديد الذي لا يفترض به أن ينكرف في خطوط السفر منذ وصوله. إلا أن هذه الاقتراحات رغم منطقيتها لم تَحسِب المخاطرة الأكبر، والتي ستُبرِز دور «أونكل جاك».

    تحرّك الجميع.. ويدرك صديقي أن الشوارع معاكسة الخطوط؛ فالذهاب في اتجاه اليسار والإياب في اتجاه اليمين، عكس معظم شوارع العالم. شخصيًا يصيبني الضحك كلما أصل إلى لندن وأتذكر إنني نسيت موضوع الخطوط المعاكسة، وأحتاج بضع ساعات كي أستوعب أنني عندما أنزل الشارع يجب أن أنظر إلى اليمين بدلًا من اليسار لأنتبه من السيارات القادمة. أذكر في إحدى المرات إنني قُمت -تقريبًا- بحمل والدي (خفيف الوزن) رحمه الله من مكانه عندما نزلنا إلى الشارع، قبل وصول سيارة كادت تصدمه.

    في حالة صديقي، كان قد اعتاد ربما على أمر هذه الخطوط.. أو اعتقد أنه اعتاد. وأثناء سيرهم في الرحلة، شيئًا واحد فقط جعل عقله يتوقف تمامًا عن حساب موضوع عكس الخطوط.. شيء واحد فقط سيغير كل شيء: الدوار.

    وصل إلى أحد الدوارات في الشارع، لم يستطع التوقف للحظات والسؤال عمّا إن كان يجب أن يأخذ الدوار من اليسار إلى اليمين (كعقارب الساعة)، أو العكس (كالطواف حول الكعبة وكما اعتاد في بلده). وقرر أن يختار عقارب الساعة.

    جاء أونكل جاك وبقية الأسرة إلى الدوار وهم ينظرون إلى حال السيارة (المستبدلة بعد حادثة الشجرة) التي بالكاد ترى ملامحها من الجهة الأمامية. فقد ارتطم وجهًا لوجه مع سيارة أخرى، كاد صاحبها أن يُجن من تفاصيل الحدث.

    تخيل معي أنك تركب سيارتك وأنت في دوار الكرة الأرضية وتجد مرسيدس عاكسًا للاتجاه بسرعة طبيعية دون حذر ليصطدم فيك وجهًا لوجه. هل ستستغرب نوع السيارة؟ أم تتأمل الراكب؟ أم ستتأمل الحظ الغريب الذي صدم سيارةً فيك بهذه الطريقة؟ ماذا لو قلت لك أن الشرطة قد جاءت بعد أن جاء أهل صاحب السيارة لتكتشف أن أحد أقاربه ضابطًا معروفًا في البلد، وجزء كبير من سمعته كان محورها الانضباط وروح العسكرية!

    هذا ما حصل مع صديقي.. جاءت الشرطة، ولأن الخطأ كان مئة في المئة عليه، فكان من المفترض به أن يعاقب عقابًا يتضمن سحب السيارة مع إيقافه في سجنٍ ما، إلا أن أونكل جاك كان موجودًا. تفاوض لساعات طويلة مع شركة التأجير والشرطة وصاحب السيارة الثانية. اضطر عدة مرات أن يذكر أنه الجنرال المتقاعد الذي يستحق معاملة خاصة وهذا الإنسان الطيب هو ضيفهم، وبالفعل تجاوب الانجليز معه في النهاية على مضض. تم دفع الغرامات وتكاليف التحمل من قِبل صديقي، وتوقيع الكفالة من قِبل أونكل جاك. وانتهت الليلة على خير. حتى قررت الأسرة السفر من خلال وسيلة مواصلات أكثر أمانًا إلى باريس.

    اعتقد أونكل جاك أن الكوابيس قد انتهت، ولم يعي أن الليل ما زال طفلًا.

    التتمة في المقالة القادمة.

  • أونكل جاك – الجزء الأول: مقالة ساخرة

    (هذه الأحداث مستوحاة من قصة حقيقية)

    بعد أن تزوج صديقي من زوجته الإنجليزية التي ترعرعت في جدة، استطاعت إقناعه بزيارة «أباها بالتعميد» أو الـ Godfather المقيم في لُندن، للسلام والتبرّك به ولمكانته الكبيرة التي توازي مكانة والدها البيولوجي. كان العم جاك «Uncle Jack» ضابطًا بريطاني متقاعد ذو صنّة ورنة في مجتمع لندن، يملك نفوذًا واحترامًا كبيرين لسنه ومنصبه وسمعته الحسنة، حتى جاء صديقي وزوجته لزيارتهم.

    عندما وصلوا إلى منزله بعد فترة بسيطة من انتهاء شهر العسل، والذي كان مقررًا أن يتم السكن فيه لشهرين قادمة مع بقية الأسرة المُحبة، أوقف صديقي سيارته المستأجرة (الفخمة) أمام المنزل. وهو يُنزِل الحقائب ريثما تذهب زوجته لدق الجرس واحتضان أباها الروحي وعائلته، لفت نظره وجود شجرة ضخمة على رصيف المنزل، كانت مائلة بشكل غريب، لسببٍ ما لم يغب ميلانها عن ذهنه، وبعد أن أتم السلام واستقبل الترحيب ثم العشاء ثم إلى سرير النوم، كان لا يزال يفكر في ميلان الشجرة الواقفة بمحاذاة سيارته خارج البيت، استطاع النوم أخيرًا بسبب الإرهاق، ليستيقظ في اليوم التالي ولا يزال أمر الشجرة مستفزًا عقله «لماذا هي مائلة بهذا الشكل؟».

    قرر وبدافع المودة وإظهار امتنانه لنسبائه الإنجليز أن يُصلِح ميلانها. وفي الصباح مع وقت الإفطار ذهب إلى الخارج وتأمل حال الشجرة واضعًا خُطة في عقله لإصلاح حالها الذي لم يقم به الجنرال وأسرته. تلخّصت الخُطة بربط الشجرة بحبل من جهة، ومن الجهة الأخرى يُربط في «هنجر» السيارة من أسفل الصدّام، ليتحرّك بهدوء في الاتجاه المعاكس..

    وما هي إلا لحظات حتى تنكسر الشجر من الوسط وتقع بالضبط على منتصف سقف السيارة لتهشِّم السقف مع الزجاجين الأمامي والخلفي وتتحول السيارة في لحظات إلى كتلة خُردة بعد أن كانت مرسيدس، ليهرع كل من في البيت إلى الخرج بعد سماعهم دوي الانكسار، ويجدوا صديقي واقفًا يوزّع نظراته بينهم وبين سيارته الفخمة المستأجرة والتي سيتحمل التأمين تكلفة إصلاحها بسبب «الظروف الطبيعية» كالأمطار أو الأعاصير ووقوع أشياء عليها لا يمكن أن تقع في الظروف الطبيعية الحقيقية، ويقومون هم بتوزيع النظرات المصدومة بين ابنتهم وعريسها الفذ.

    كان الفضول موزعًا بالتساوي على كل من حضر المشهد، فهو قد سبق الجميع بفضوله بعدم ترك هذه الشجرة بهذا الحال ربما لسنوات، والأسرة قادت فضولهم عن هذا المخلوق الذي أتى وتصرف من عقله في شيء لا يخصه في أول يوم للزيارة، بينما أونكل جاك كان قاده الفضول لمستوى جديد، جعله يتساءل كيف ستعيش ابنته بقية حياتها مع هذا المؤشر البسيط الذي حصل أمامه؟

    وبالطبع لم يستوعب أونكل جاك أن بداية الغيث قطرة، وأن المصائب في الحقيقة تتكدّس أحيانًا لتأتي دفعة واحدة خلال وقتٍ قصير.

    بقية القصة في المقالات القادمة.

  • نصائح عن الكفاءة المنزلية (٢): فيلتر الماء

    أعرف..

    سيُعلِّق بعض الأفاضل بأن «طعم الماء لك عليه» أو أننا «اعتدنا على القوارير/ مياه الصحة». وفي الحقيقة لا بأس بهذه التعليقات، ولكن؛ نعود للنقطة في المقالة السابقة التي تقوم على مبدأ «القيمة مقابل المال» أو «القيمة مقابل الجهد»،مع ضمان الحصول على نتيجة مرضية (ولا أقول نتيجة توازي جودة مياه إيفيان)، ففي النهاية نحن في المملكة لا نملك نهر النيل، ومعروفين بنقصنا الحاد للمياه العذبة، ولولا ستر الله ودعم الحكومة الرشيدة، لكان حالنا أسوء.

    طوال عشر سنوات كُنت أشاهد جالون فيلتر الماء وهو معلّق فوق البرادّة في منزل إحدى أخواتي، كنت دائمًا استنكر وجوده، معتقدًا أن المياه الخارجة من الفيلتر غير نظيفة بما يكفي، أو «بيتهيألي» أن طعمها فيه شيء ما غير مألوف، حتى جاء ذلك اليوم الذي اهدى فيه خالي العزيز والدتي خدمة تركيب فلترًا للماء في مطبخها الرئيسي (بالمناسبة، خالي من الشخصيات شديدة المحافظة على صحتها، وأثق وأنا مغمض العينين بقراراته التي ترتبط بأي شيء يدخل بطنه).

    وعندما عُدت من الولايات المتحدة وسكنت معها، أصبح انسجامي مع المياه الجديدة ليس فيه خيار، مع العلم أن معظم سُكان فلوريدا -التي عشت فيها- يشربون مياه مفلترة، ولم يساهم هذا الأمر بتغيير نظرتي. لذا قررت أن أتجاوز رغبتي بإعطاء تعليقات سلبية لكيلا «أُزعِّل والدتي» وأنضبط على شُرب واستخدام ماء الفيلتر. أول ملاحظة وجدتها في سلوكي كانت أن هناك شيءٌ ما داخلي يقول أن مصدر الماء أصبح غير متوقف، وبالتالي من العيب ألا أقوم بغرس عادة شُرب الماء بكثرة في حياتي. قمت بشراء عدة قوارير (١ لتر) فارغة، وأصبحت يوميًا أحرص على تعبئتها بهدف شُرب ثلاث ليترات من الماء حتى نهاية اليوم كمقياس.

    بدأت العادة في التشكُّل وقد يقول قائل إنني من الممكن أن أشرب ثلاث ليترات بغض النظر عن نوع الماء، إلا إنني أعيد وأكرر أن البرمجة كانت نفسية ولا علاقة لها تحديدًا بنوع الماء، فالسهولة الآن للحصول على ماء للشرب أصبحت لا تُقارن مع أي حال قديم.

    والأمر الثاني كان عندما التقيت زميلي في المكتب (أخي عاصف) والذي جاء من جنوب الهند حيث كان يعيش في منطقة «كيرلا» المعروفة بثروتها المائية، وقد أخبرني أنه وزوجته قد جربا ماء الفيلتر هنا، واتفقا أن طعمها يذكّرهم بمياه كيرلا النقية، وهذا ما شجعني على القيام بطلب فيلتر آخر في مطبخ المنزل الأصغر بجانب غُرف النوم، وأصبح أطفالي منذ استيقاظهم (وأنا معهم) لا يخوضون المشوار إلى المطبخ الرئيسي من أجل الحصول على الماء، فها هي أمامهم، وبالتالي تحسّنت عادتهم في كثرة شرب الماء.

    الأمر الثالث، أخبرني أحد أقاربي أن صديقًا له كان قد قام بعمل تحاليل لقوارير مياه من عدة شركات تجارية ليقارنها مع تحليل ماء الفيلتر، وأخبرني أنها وبالفعل تتمتع بنقاوة «مش بطالة». ومن باب الهوس، كُنت قد طلبت من الشركة المسؤولة عن تركيب الفيلتر (الذي يُكلّف تركيبه مرة واحدة حول السبعمئة ريال) بالقدوم في فترة أقل من ثلاثة أشهر لتغييرهم، مع العِلم أن تكاليف التغيير حوالي السبعين ريالًا فقط، هذا المبلغ كل شهرين أصبح مقابل قيمة إعطاء أُسرة مكونة من سبعة أشخاص إمكانية شُرب كمية كبيرة من الماء. في وقت كانت تُصرف فيه أضعاف هذا الرقم قبل تركيبه.

    وهنا كونت نصيحة أعطي نفسي الحق بإعطائها للقارئ الكريم، بأن يقوم بتركيب الفيلتر في كل حال من الأحوال؛ ليشجيع نفسه بشرب كمية أكبر من الماء، وإن قرر أن طعمها «لك عليه» ربما أقترح عليه استخدامها للطبخ وإعداد القهوة والشاي، لتكون خطة بديلة في حال استيقظ في أحد الأيام وأكتشف أن قواريره قد نفذت.

    كان الله في عون الجميع.

  • لماذا نحتاج للهدوء أكثر من أي وقت مضى؟

    هذه المقالة نُشرت بداية لصالح مدونة موقع حجر. ورقة. مقص.

    تحدّثت في مقالة سابقة عن أن أكثر ما يفتقده الإنسان في العصر الحديث لينمو في حياته الشخصية والعملية هو إيجاد وقت يومي منتظم لا يقوم فيه بفعل أي شيء سوى الجلوس والتأمل (أو المشي والتفكير).

    [في الولايات المتحدة] من عام ٢٠١١ حتى عام ٢٠١٥م، أظهر مقياس إنتاجية العمل الرسمي للحكومة ٠.٤٪ فقط نموًا سنوي في الإنتاج لكل ساعة عمل. هذا هو أدنى مستوى لمدة خمس سنوات منذ الفترة ما بين ١٩٧٧ إلى ١٩٨٠م، وأقل بكثير من متوسط ٢.٣٪ منذ الخمسينيات.

    نقف أمام انخفاض واضح لمعدل نمو وإنتاجية عامة للأفراد في الوقت الذي يفترض به أن نكون عكس ذلك، مع وجود الانترنت وسهولة التواصل وإمكانية إنجاز معظم الأعمال المكتبية من المنزل أو من أي مكان في العالم. إنجاز الأعمال (كمفهوم) لم يكن تاريخيًا أسهل مما هو عليه اليوم، وإمكانية الجلوس مع أحباءنا والقيام بهوايات نحبها والتعرف على أنفسنا أكثر والابتعاد عن التوتر من ناحية نظرية يفترض به أن يكون جزءً من نمط حياتنا اليومي، إلا أن الواقع ليس كذلك. ليس مهنيًا فقط، بل حتى أن جزءً كبيرًا من الواجبات الأسرية في التبضّع لا تتجاوز في وقتها وقدرة إنجازها دقائق قليلة على أحد مواقع بيع الخضروات أو السوبرماركت أو أمازون أو نون كي يصل إلينا ما نشتريه في وقتٍ قياسي وهذا يجعل العصر الحالي أسهل وبالتالي يفترض أن يوفر لنا وقت أكثر للتأمُل والهدوء. 

    يعمل كاتب هذه السطور في شركة «خدمات لوجستية» ولم يقم ولو لمرة في حياته وتقريبًا مع أيٍ من زملائه بلمس أو مشاهدة شُحنة أو حاوية واحدة كانت قد عُبئت أو تركت الميناء متجهة إلى ميناء دولة أخرى أمام عينه، هذه الشركة تخدم سنويًا أكثر من خمسين عميلًا مختلفًا مع آلاف الحاويات المشحونة بأعلى كفاءة. كل الأعمال تُنجز من خلال التواصل والتنسيق الالكتروني، من خلال المكاتب أو المنازل، دون تدخلات يدوية مباشرة، سوى عُمال محدودين في الميناء أو في المطارات.

    إنسان واحد طرق عمل متعددة:

    «في عام ١٨٧٠م (في عهد الثورة الصناعية)، كانت ٤٦٪ من الوظائف في الزراعة، و٣٥٪ في الحرف أو التصنيع، وفقًا للخبير الاقتصادي روبرت جوردون. عدد قليل من المهن التي اعتمدت على عقل العامل. لا يجب أن يُفكر العامل. يجب أن يجتهد دون انقطاع في يومه، عمله هو النتيجة الظاهرة والملموسة.» يعلّق الاقتصادي مورجان هوسل في مقالته  «عمل كسول، عمل جيد» حول انتقال الأهمية القصوى من الجهود البدنية إلى العقلية في عالم التوظيف اليوم، في وقتٍ يفترض بنا أن نكون أقل عرضة للضعوطات.

    «كان «جون دي. روكفيلر» أنجح رجل أعمال في كل العصور (بلغة الأرقام). كان أيضًا منعزلاً، يقضي معظم وقته بمفرده. نادرًا ما يتكلم، ويتعذر الوصول إليه عن عمد ويلتزم الصمت عندما تلفت انتباهه، سياسة الباب المفتوح ليست في قاموسه. قال أحد عمال المصفاة الذي كان يسمع من حين لآخر روكفلر عندما يتحدث ذات مرة: «إنه يسمح للجميع بالتكلُّم، بينما يجلس في الخلف ولا يقول أي شيء. لكن يبدو أنه يتذكر كل شيء، وعندما يبدأ بالحديث يضع كل شيء في مكانه الصحيح».

    لم تكن مهمة روكفلر حفر الآبار أو تحميل القطارات أو نقل البراميل (وهي صُلب أعمال شركاته). كانت مهمته اتخاذ قرارات جيدة.  واتخاذ القرارات يتطلب، أكثر من أي شيء آخر، وقتًا هادئًا وحده مع رأسه للتفكير في مشكلة ما. رأسه كان المكان الذي أمضى فيه معظم وقته وطاقته.» يُضيف هوسل، «كان هذا أمرًا مميزًا في عصره. تطلبت جميع الوظائف تقريبًا خلال وقت روكفلر القيام بالأشياء بالأيدي».

    انقلبت الآية اليوم؛ أكثر من نصف الوظائف في الاقتصاديات الحديثة لا تتطلب تدخلًا يدويًا.

    الإلهاء:

    غزارة الإلهاء وتنوع قنوات الترفيه ربما يكون هو ما استبدل أكثر ما يفكر فيه الإنسان المعاصر الطموح: المزيد من الإنتاجية. في حين أن الكفاءة وإيجاد الحلول الحياتية والمهنية لا تتطلب أحيانًا سوى التعامل بمزيدٍ من الهدوء في كل ما نقوم به. وتاج الهدوء هو التفكير.

    لا يستطيع موظف اليوم أن يستأذن مديره لكي يقوم بنزهة لمدة ساعتين في أوقات العمل كي يفكر في خطة وتنفيذ أكثر كفاءة لمهامه العملية، ولا يمكن ضمان استمرارية الموظف على كرسيه إن رفض بشكلٍ متواصل عدم حضور الاجتماعات المطولة سيئة الذِكر، بل العكس.. مع قرب اختفاء آثار الجائحة، أصبحنا أكثر قُربًا من أجهزتنا الذكية التي يمكن من خلالها أن يتواصل معنا زملاءنا على مدار الساعة، معتقدين أن العمل من المنزل ظاهريًا أقل ضغطًا علينا.

    «أستغرق وقتًا في المشي لمسافات طويلة على الشاطئ حتى أتمكن من الاستماع إلى ما يجري داخل رأسي، إذا كان عملي لا يسير على ما يرام، فأنا أستلقي في منتصف يوم العمل وأحدق في السقف بينما أستمع وأتخيل ما يدور في مخيلتي». لم تكن هذه إجابة إنسان كسول في عمله عندما سؤل عن أوقاته التي يقضيها لحل مشاكله، إجابة آينشتاين تُفسِّر أسباب خروج إنجازاته العملية، وقد تكون أيضًا إجابة على سؤال أكاديمي تقليدي وهو «لماذا لا يُخرِج معظم الأكاديميين في العالم باكتشافات أو استنتاجات مؤثرة؟» وهل يصح أن نفترض أن الإجابة قد تكون «انشغال معظمهم بالتدريس وليس الجلوس ساعات أطول للتفكير؟».

    أراقب عن كثب حياة الكثيرين من رجال الأعمال في حياتي المهنية، ونادرًا ما يُلاحظ انتقال الكثير منهم لمستويات جديدة في أعمالهم وتوسّعها، بسبب أنهم بالفعل مشغولين، مشغولين بالأعمال التي تُشغِل وقتهم وأيديهم وإيميلاتهم أكثر من عقولهم ولحظات الهدوء التي يفترض أن تتحيز ولو قليلًا للتفكير.

    حرب اليوم الداخلية لدى الإنسان مع نفسه لكي ينمو هي ليست بكل تأكيد في توفير المزيد من الوقت. بل في تخفيف الإلهاء، والبحث عن المزيد من دقائق التفكير بدلًا من الانصياع للترفيه، التخفيف من التواصل الاجتماعي وزيادة التواصل الفعّال.

    لكي ننمو، نحتاج أن نكون أكثر من أي وقتٍ مضى برفقة الكُتب والخلوة والأفكار والكثير من الأعمال العميقة بدلًا من إتاحة النفس لتكون عرضة للعمل في أي وقت وتحت أي سقف.

    لكي ننمو نحتاج لهدوء أكثر.

  • نصائح عن الكفاءة المنزلية (١): غسالة الصحون

    مثل الكثير من رجال الطبقة المتوسطة الذين يدّعون أنهم يتحملون المسؤولية، أحاول دومًا البحث عن أفضل الطرق التي تتحقق فيها معادلة «القيمة مقابل المال» في أي أمرٍ متكرر (أو سيتكرر) في حياتي الشخصية؛ وتحديدًا داخل المنزل.

    هنا بعض القرارات التي أشاركها وأجدها من أهم الأمور التي ساهمت بتغير حياتي جذريًا بسبب كفاءتها في حياتي:

    غسالة الصحون وكي الملابس:

    مع ولادة ابنتي الثانية، قرر كل من حولي ممارسة بعض الضغوطات لإقناعي بجلب خادمة (ثانية) في منزلي الصغير آنذاك. فالمسؤولية قد تضاعفت، وعدم قناعتي باستحقاق وجود خادمتين تضاعف أيضًا. قررت التحرّك بشكلٍ مختلف. عملنا اجتماعًا صغير مع عاملتنا المنزلية، وسألتها السؤال التالي: «ما هي أكثر مهام متعبة في المنزل؟» أخبرتني أن غسيل الصحون وكي الثياب (القطن) الخاصة بي مرهقة جدًا.

    في نفس الأسبوع أزلت دولابين من دواليب المطبخ مع تنسيق وضعهم في أماكن أخرى، وقمت بإحضار سبّاك ليوصل لي تصريفًا إضافي، ثم ذهبت إلى إحدى محلات الزقزوق للأجهزة المنزلية، وعندما دخلت ودون مقدّمات طلبت من البائع أن يُريني أغلى وأفضل غسالة صحون لديهم. وبالفعل قمت بشراء غسالة من نوع «ويرلپول» ببطاقتي الائتمانية (أعتقد أن سعرها آنذاك ٣٧٠٠ ريال)، وحمّلتها حسبما أذكر على إحدى برامج التقسيط بسعر الكاش (دائمًا أقوم بذلك عندما أشتري مقتنيات غالية نسبيًا). وتم حلْ مشكلة غسيل الصحون بنسبة تسعين بالمئة، كل شيء يتسخ يتم وضعه في الغسالة، ونهاية اليوم نُشغلها قبل النوم.

    وبالنسبة للثياب القطنية، اتفقنا أن نغسلها في المنزل، ونكويها في الخارج. وأذكر أنني كنت أطلب خدمة أخذ الثياب وكيها من خلال تطبيق «كلين آب» (اليوم يقوم السائق بهذا الأمر). وهذه الحالة مستمرة حتى كتابة هذه السطور. هذه الخطوات قد تبدو مكلفة وقتها، إلا أنها مكلفة مرة واحدة والأهم أنها أسعدت الجميع، فقد وفّرت دفع آلاف الريالات للحصول على تأشيرة استقدام وراتب إضافي، واحتمالية مشاكل تعلمها بعض سيدات البيوت.

    عمومًا، غسالة الصحون من الاختراعات التي يستهين بها الجميع بصراحة، ولا أجد إنني قمت بأي عمل استثماري داخل المنزل يفوق في راحته مثل قرار شرائها. بل وأجد أنها تستحق أن يتسلف الإنسان من أجلها دون مبالغة.

    قمنا أيضًا بزيادة جيدة في راتبها، تطبيقًا لما تعلمته من كتاب Good to Great للكاتب Jim Collins في وصفه أفضل نموذج توظيف: «وظِّف خمسة.. أعطهم مهام عشرة.. ورواتب ثمانية» وسترى إنتاجية عالية. وبالطبع هذه الزيادة كانت سببًا بعد الله للسعادة والولاء.

    سأتحدث في المقالات القادمة على تجارب كفاءة أخرى، ربما تفيد القارئة الكريمة.

    كان الله في عون الجميع.

  • اللهم إني صائم – الجزء الثاني

    قرأت من كتابي عُمر طاهر (من علم عبدالناصر شرب السجائر) و(كتاب المواصلات):

    1. عندما قرر ناصر تعيين هيكل وزيرًا للإعلام، شعر هيكل بالقلق لأنه كان يتوقَّع أن يزيحه ناصر عن «الأهرام»، لأنه لا يُفضِّل أن يشغل أحد منصبين. وذهب هيكل غاضبًا إلى الكاتب لطفي الخولي في بيته، وأخذ يشكو له من ناصر واحتمالات الغدر القائمة وقراراته العشوائية. وكعادة الوقت، وصلت إلى ناصر تفاصيل الجلسة كاملة، وأغضبه بشدة كل ما قاله هيكل، لكنه لم يؤذه، واكتفى بإصدار قرار بالقبض على لطفي الخولي.
    2. قصة خطف الملك فاروق لناريمان من خطيبها، تبدأ من محل جواهرجي، أسرَّ له الملك ـ كصديق. بمواصفات العروس التي يبحث عنها بعد طلاق زوجته الأولى: صغيرة السن، بلا أخ أو أخت، وملامح أقرب لواحدة يعرفها الجواهرجي كان يحبها فاروق لكنها طفشت من البلد بسببه. وذات يوم دخلت ناريمان محل الجواهرجي مع خطيبها لشراء خاتم الزواج، ووجد فيها الجواهرجي كل المواصفات التي يبحث عنها فاروق، فطلب منها العودة في اليوم التالي ليعرض عليها بضاعة جديدة. وفي اليوم التالي هيأ الجواهرجي لفاروق مكانًا يراقب منه ناريمان. وبعد دقائق قليلة كان فاروق قد اتخذ قراره. ولا تذكر كتب التاريخ ماذا كان مصير خطيب ناريمان، لكنه اختفى من الصورة، ويبدو أنه تعرض لما جعل هذا الزواج لعنة على فاروق وناريمان. وبقي الجواهرجي يعرفه الناس ببضاعته الراقية وأخلاقه الواطية.
    3. أي واحدة لديها مشكلة ما مع زوجها وطلبت مني نصيحة زوجية، سأقول لها نصيحة واحدة أيًّا كانت المشكلة: «روحي للكوافير، الرجل تافه»، وإذا طلب مني رجل نصيحة مستقبلية عن الزواج سأقول له نصيحة واحدة: «لا تتزوج واحدة كسول»، كسل المرأة ينعكس على كل شيء في حياتها، من التعبير عن مشاعرها إلى ضبط درجة الملح في الطعام.

    التعليق:

    قد يُفكر أحد القراء الكِرام أن الأمر المشترك في الرجال الثلاث في مواضع مختلفة هي «تفاهة وغباء الرجال». وقد يري آخرين أن المشترك قد يكون تفاهة من ناحية وامتلاك حس مضطرب وشاطح من ناحية أخرى. نفس هذا الحِسْ مثلًا نجده في الوظائف التي تمتلك نوعًا من الإقدام الفكري والكلاحة والتي غالبًا ما يفوز بها «رجل» أو سيدة «ببعضٍ من شخصية رجل» كمطابخ المطاعم والمبيعات والوظائف الهندسية. مثلها مثل المغامرات العملية الأخرى التي تُطهِر أخطار غير واعية وقتها وسهلة التبرير بعدها.

    لا تجد السيدات في عالم الأعمال مرنين في فكرة التعامل مع الأرقام الكبيرة (سواءً كانت محاولات الحصول على استثمارات إضافية أو قروض بالملايين من البنوك) ناهيك عن الحالة العالمية الشهيرة التي تُرجّح كفة الرجال في تفاوضهم على زيادات لمرتّباتهم أكثر من النساء.

    تميل في اعتقادي السيدات في حياتهم إلى كل شيء تكون سمته الاستقرار، وهو عكس ما يميل له الرجل الذي يشعر دائمًا بأن شيئًا ما ينقصه، وهو ما يدفعه للتفكير خارج الصندوق، مع امتلاك مساحة أكبر لتحمل المخاطر. هذه المساحة تتشكّل لاعتقاده أن ما ينقصه.. فيه نقص لرجولته.

    على كل حال، دائمًا ما أستشهد بعدة قصص كانت أبطالها سيدات اختاروا ألا يخسروا بدلًا من استجابتهم لمكاسب وردية اقترحها شركائهم؛ أحدها إصرار الزوجة على عدم انتقال زوجها إلى وظيفة بضعف الراتب «لأنه لا يستطيع في المستقبل التعامل مع مشاكلها نفسيًا» فهي تعرف عن خراعته وتردده أكثر بكثير مما يؤمن هوا بقدراته. وقد يكون بالفعل ما ينقصه في هذه الحالة «ضِعف الراتب» ولكن شطحانه لا يريه أن الزيادة مربوطة بأشياء بالفِعل تنقصه.

    ولا أعلم إن كان شكرها بعد سنوات من اقتناعه برأيها (الذي كان على ما يبدو سديدًا للغاية).

    كان الله في عون الجميع.

  • اللهم إني صائم – الجزء الأول

    من المفارقات العجيبة في عالمنا العربي أن «الشرموط» هي أكلة سودانية شهيرة تُطلق على نوع من اللحوم أشبه ما تكون بالـ Beef Jerky، وهي عبارة عن لحم مجفف إما من خلال أشعة الشمس، أو الأفران، أو الشواء، أو بطُرق أخرى، في حين أن كلمة «شكشوكة» تحمل نفسى المعنى الذي كان في ذِهن القارئ الكريم مع الكلمة الأولى؛ عند نفس الإخوة السودانيين.

    في إحدى الرحلات الصباحية إلى الخرطوم، كان صديقي مُضيفًا جويًا عليها، وعندما حان موعد توزيع وجبة الإفطار على رُكاب الطائرة التي كانت ممتلئة على آخرها، أخذ بالطريقة المعتادة عربة الأكل وباشر -بدافع السرعة- بسؤال الركّاب سؤالًا سريع «تحب تفطر إيش؟» ولتجنّب الأخذ والرد مع الرُكاب، ركّز بعدها على إعطائهم الخيارات المتاحة لديه والتي كانت عبارة عن «فول» و«شكشوكة».

    أصبح يقف عند كل مسافر ويسأله في جزء من الثانية: «فول ولا شكشوكة؟» وبالطبع اختار معظمهم الفول تجنبًا للفتنة، وعندما وصل إلى سيدة سودانية كبيرة في السن مع وصول نيته بتصريف الفائض من صحون الشكشوكة، توقف ونظر إليها وقال: «شكلك شكشوكة!» لم تستوعب السيدة السودانية الفاضلة ماذا سمعت، لتطلب أن يعيد ما قاله «إن كان رجّال» ..

    «شكشوووكة إنتي شكشوكة.. صح؟» لتقوم المرأة من مكانها وتصُب حمم بركانية من الغضب والصريخ على صديقنا، ليقوم هو الآخر بردة فِعل عنيفة وهو ينظر إلى الركّاب الآخرين وزملائه ممتعضًا بأن «هذه الأدمية أقول لها شكشوكة وتزعق عليا، إيش الكلام الفاضي وقلة الأدب؟» مع نظرات ازدراء واستغراب من بقية الركاب له، وحيث قام أحدهم وطلب منه «أن يستحي على وجهه» دون أن يفهم ماذا يحدث وتضيع الطاسة. إلا إنه قرر المشي وخدمة الزحام المتبقي لنهاية الطائرة كنوع من الحِلم والحفاظ على الرِزق.

    تركهم وهو يستمع إلى صريخ المرأة خلفه وبعض الرجال الذين اتهموه بنقص الحياء والتربية، وهو يخبر نفسه «والله ناس عجيبين.. أخدمها وأعطيها فطورها وأتهزأ!».

    استوعب الصديق بعد وقتً طويل المعنى الحقيقي للكلمة، إلا إنه أخذ نصيبًا لا بأس به من الدعاء عليه وشتائم في السر.

    هذه الكلمة على غِرار كلمة خليجية كثيرة التداول وهي «طرّشلي» أي «إرسل لي» وهي تحمل معنى «الإرجاع» أعزّكم الله عند الحجازيين، وقد حصل أكثر من مرة أن يُطلب من أصدقائي البحرينيين أو الإماراتيين أو الكويتيين أن يتوقفوا بكل ود عن استخدمات هذه الكلمة في التواصل أو في الاجتماعات من شدة تأثيرها على مخيلة الباقيين من أهل الغربية، ليمارسوا بدورهم نوعًا من الـ (Code Switching) بالانتقال من لغة للغة أو لهجة للهجة أخرى تجنبًا لإحراجهم. إحدى الآنسات الحساسات، كانت قد قاطعت اجتماعًا وذهبت إلي دورة المياه لاعتقادها أنها «ستُطرّش» لهم حرفيًا من كثرة سماعها للكلمة التي لعبت دورًا كبير في مخيلتها، بعد أن اتفقوا المجتمعين على إرسال الأرقام والمواقع لبعضهم البعض مع نهاية اللقاء.

    ربما يستحق أن ننتبه لبعض هذه المفارقات، وأن نتجنب مثلًا قول «الله يعطيك العافية» للإخوة من المغرب العربي، كيلا يتكرر موقف السيدة السودانية معنا.

  • الأكل الحار وحالة تقدّم السن

    بدأ تدريجيًا الكثير من أفراد أسرتي بالتنازل عن حبهم للأكل الحار. أصبحت فجأة الوحيد في السُفرة الذي يُترك مع الأطباق المفلفلة دون أن يمسّها أحد. بالنسبة لوالدتي أصبحت لا تريده بسبب المشاكل التي يسببها لمعدتها، وبالنسبة لإخوتي اكتفوا بقولهم أنهم لا يفضلونه الآن أو «ما فيهم» بلهجتنا الدارجة، في الإشارة لعدم رغبتهم في تجهيز ذهنهم لاستقبال أكل سيتفاعل معه أجزاء كثيرة أخرى في الجسد.

    بالنسبة لي، تناول الأكل الحار يعتبر أحد ركائزي البيولوجية في الحياة، فالأكل غير الحار أعتبره تقريبًا بلا طعم، وطلب وجبة البيك (عادي) قد يساهم بإنقاصك درجة في سُلم الصداقة.

    استوقفني التحول الهادئ الذي أصاب أسرتي من حبهم للأكل الحار (والذي شككوني بعكسه) إلى تجنبه، ولأنني الأصغر فإنني أعتقد دومًا أن أي تغيرات تصيب إخوتي أو والدتي في السلوك سكون منبعها «علامات تقدّم السن»، ثم تأتيني حملة تذكير كبيرة داخل عقلي أنني لن أكون مثلهم عندما أكبر (قليلًا).

    في الفترة الأخيرة ظهرت بعض التغيُّرات التي بدأت ألاحظها في نفسي وأراها مضحكة وغريبة. مثلًا، نمت قبل عشرة أيام نومة بوضعية خاطئة، استيقظت بعدها وأنا أعاني آلامًا غريبة في ظهري استمرت لأيام، بل وحتى كتابة هذه السطور، لأقرأ في نفس يوم الاستيقاظ في مكانٍ ما في التواصل الاجتماعي: أن العطسة القوية والنوم بشكل خاطئ وقليلٌ من السهر، قد يسببون لك إصابات تكشف لك أنك لم تعد صغيرًا.

    في كل سفرة يتغير روتين النوم، وأكتشف في اليوم التالي بعد نومة مخبوصة إنني قد التقطت بعض أعراض الزكام بسبب نقص ساعات النوم والذي أنتج نقصًا طفيفًا في المناعة. أذكر في إحدى تلك السفرات قبل شهرين من مدينة الرياض، كان هناك مسافر يبعد عني مسافة كرسيين قد قام بتهزيئي دون مقدمات، لأنني سافرت وأنا مزكوم وممسك بعلبة مناديل في زمن يفترض بي أن أنطق فيه في منزلي وأرتدي كمامات. كان على ما يبدو من فئة الأحبة الخائفين بشكلٍ زائد عن الحد من حالة الكورونا وما حولها.

    عندما جلست عند شاهين الحلاق آخر مرة، استأذنني ليقص بعض الشعرات الطويلة في حاجبي (خوفًا من اعتقادي أن ما سيقوم به حرام)، استطالة الشعر في أماكن غريبة عند الرجال حتمًا هي علامة تقدّم للسن. وعن نفس السيرة، في الحقيقة أنا الوحيد من أصدقائي الذي لم يصيبني الشيب بعد. ولا أعرف أأفرح أم أقلق من هذه النتيجة!

    ومن ناحية تربوية أُبشِّركم بانضمامي لنادي الآباء الذين ينكت بناتهم عليهم، لأنني لم أفهم مصطلحًا قد نطقوا به (بالمناسبة أعتبر نفسي رجلًا متقدمًا في عالم التكنلوجيا ومطّلع على السخافات أكثر من الأمور الجدية في الحياة، ولهذا وجدت أن استقبالي للنكات من بناتي فيه نوع من الظلم)، وبدأت تتراكم مؤخرًا المواقف الصغيرة التي أشعر فيها إنني لستُ على نفس الصفحة معهن، ولو إنني والله أحاول جاهدًا الابتعاد عن تلك الصورة التقليدية بين آباء في وادٍ وأبناء في واد آخر.

    أخبرتني أختي العزيزة العنود الفهد إنني وبمجرد أن أتجاوز الخامسة والثلاثين سوف أنكب على نفسي وأسرتي أكثر من أصدقائي وخرجاتهم والسهرات التي قد يضحي بعض الشباب بجزء من كرامتهم ليحصلوا عليها (التشبيه الأخير فيه نوع من المبالغة، وشيء من الحقيقة).

    والآن.. يتصارع عقلي كل يوم بين ترك جلسة «الليزي بوي» والكتاب الذي يفترض بي أن أقرأه، وبين خرجة لقاء الأصدقاء في المساء، لأول مرة في تاريخي، يميل القلب والعقل لإخباري بأن أبقى، إلا إنني جزء محب لهذا المجتمع، ولا يجب أن أنجرف للقناعات والحالات الجديدة، وإلا سأكون بالفعل متقدمًا فجأة في السن.

    كان الله في عون الجميع.

    وكل عام وأنتم بخير.

زر الذهاب إلى الأعلى