الشهر: مارس 2023

  • عندما حضرت مناظرة عن الزواج

    أشاهد في فبراير ٢٠٢٠م إعلانًا عن إحدى اللقاءات الثقافية الظريفة في مدينة جدة بعنوان: «مناظرة عن مؤسسة الزواج» سيتنافس ضيفين فيها؛ كلٌ يدلي بدلوه حول وجهة نظره تجاه مؤسسة القفص الذهبي. سارعت بالتسجيل وكُنت بطبيعة الحال أول الحاضرين خلف فضولي الذي دفعني للتعرّف على ماذا ستقوله الآنسة الكريمة والسيد الذي سيأتي من مدينة الرياض خصيصًا لهذه المناظرة.

    استقريّت على مقعد في الصف الأخير رغبة مني في مشاهدة ردّات الفِعل والحماس المنتظر من الجميع. لحِق هذه المناظرة؛ مُناظرة أخرى أصغر قليلًا بين إنسانٍ طبيعي وآخر نباتي، كل واحدٍ فيهم يجب أن يُقنِع الحضور بأفضلية نمط حياته الغذائي.

    امتلأت القاعة على آخرها بعد وصولي قبل الموعد بحوالي الربع ساعة، التقيت بأخي العزيز أحمد والذي كان مُشرفًا على هذه الفعالية الثقافية، سلمت عليه وشكرني على الحضور وربما أخبرني أنه متابع جيد لما أكتب. أعطاني بعدها مقدمة مختصرة عن المناظرة الرئيسية والتي كانت الآنسة فيها والتي حضرت في وقتها معارضةً لفكرة الارتباط، وبأن الزواج لا يمكن له أن يكون الشماعة التي يُعلٍّق الإنسان آماله العاطفية والروحية عليها، في حين أن الضيف الكريم من خارج جدة، كان العكس. يعتقد أن الزواج -ربما- أمرٌ طبيعي وشر لا بد منه على أحسن تقدير لاعتبارات اجتماعية. وسألني أحمد سؤالً مباشرًا قبل أن يتّجه إلى استقبال الضيفة: إن كُنت مع أو ضد الأمر. لأحسم الأمر بأن رأيي لن يُشكِّل فارقًا، فابنتي الثالثة قد بلغت من العمر ثلاث سنوات.

    أمسك أحمد الميكروفون، رحّب بالجميع، واعتذر لأن الضيف القادم من الخارج كانت قد تأخرت رحلته، وعليهم الانتظار بضعة دقائق حتى يصل. بعد خمسة دقائق، أشاهد أحمد وهو يسير بين المقاعد تجاهي، ويسألني بصوتٍ منخفض: «إيش رأيك تطلع نيابة عن الضيف؟ شكله حيتأخر من جد».

    اعتذرت بأدب طبعًا، وأخبرته بأنني أولًا متشوق للانصات إلى هذه المناظرة أكثر من شغفي بالإدلاء بدلوي فيها، وثانيًا إنني لم أُحضِّر لها ولا لأسئلتها التي كانت قد وصلت إلى الضيفين الكريمين قبل اللقاء. ليشكرني ويعود إلى المنصة.

    يمسك الميكروفون مرة أخرى، يكرر اعتذاره، ويخبر الجميع بأن الضيف سيتأخر كثيرًا، ويخبرهم بأن هناك ضيفًا آخر بديل، سيحل محله وسيقود راية التشجيع على الزواج.. ودون مقدّمات: «رحبوا معي بالكاتب الكبير أحمد مشرف!».

    انصدمت عندما سمعت اسمي وأنا ممسكٌ بهاتفي، وجدت أكثر من خمسين شخصًا كانت أنظارهم قد اتجهت إليَ في المقعد الخلفي. انحرجت طبعًا، وقررت شحذ الهِمّة والسير في اتجاه المنصة وأنا أشاهد أحمد يعطيني نظرات اعتذار على توريطه لي بهذه المأساة، أخذت الكُرسي وجلست أمام السيدة شديدة التأنق والتي خشيت من نظراتها إنها كانت تحمل غضبًا تجاهي وهي لا تعرفني.

    لن أتطرق كثيرًا لفحوى المناظرة التي لا أذكر كل تفاصيلها الدقيقة، إلا إنني أذكر أنها بدأت بسطرٍ صغير قالت فيه: «لا أرى أية قيمة في مؤسسة الزواج، لا أرى أي قيمة في الإنجاب الذي سيُغرِق هذه المخلوقات الجديدة ببؤس الحياة» وانتهت جولتها الأولى.. هكذا سريعًا!

    كان ردي -إن لم تخنّي الذاكرة- بأن المشكلة ليست في فكرة الارتباط نفسها بقدر ما هي النيات التي يبحث فيها الإنسان عن شكله بعد تحققها. تملك المرأة بويضة واحدة داخل جسدها، إن تم تلقيحها ستتغير حياتها للأبد. لا تملك المرأة العادية القدرة أو الرغبة في تعدد شركائها في الحياة، هي تبحث عن أمرين (مع إحساس الحُب): إحساس الأمان، وفرصة الحصول على طفل. لا تكتمل هذه الشرطين دون وجود زوج تعطيه ولاءها إلى الأبد؛ وعندما تتحقق هذه الأمرين (أو أحدهما على أقل تقدير)، سوف تتمكن من وهب نفسها للشريك المرتقب نفسيًا وجسديًا. إن اختفى «إحساس الأمان» أو «فرصة الحصول على طفل» سوف لن يكون هناك أي علاقة طويلة الأمد من ناحيتها، هكذا الأمر ببساطة.

    الوضع مختلفٌ تمامًا بالنسبة للرجل، فهو يبحث عن قالب مستقر ومستمر يُشبع من خلاله عواطفه وأحاسيسه البيولوجية، يستمد بعدها قيمته كإنسان من خلال توفير العطاء والرعاية والأمان للشريكة وأسرته، هذا العطاء هو الذي يُشعِرهُ مع الوقت باكتمال رجولته. وعندما لا يحصل على مردود عاطفي وغريزي مُشبِع من ناحيته، سوف لن يكون هناك علاقة مستمرة طويلة الأمد، هكذا الأمر ببساطة أيضًا.

    إن كانت مشكلة الشباب (معظم الشباب والشابات الصِغار) أنهم في الواقع يستهينون بمسألة العُمر، فهم في المقابل سرعان ما يستيقظون فجأة للبحث عن بدائل سريعة تجعلهم ينخرطون في أمور تقرّبهم من القفص أكثر. فالوقت يسير ببطء قبل الثلاثين، ويبدأ بالقفز بسرعة بعدها. هذا الأمر لا ينطبق على الواقع الاجتماعي، بل العملي والعلمي أيضًا. تقل الخيارات أكثر فأكثر بعد الأربعين، وقد تعلّمت -رغم ادّعائي بانفتاحي- أن المدرسة التقليدية دائمًا ما تفوز نهاية الطريق. تعلّمت أن ما يحاول إقناعنا به أباءنا وأجدادنا دائمًا ما يكون صحيحًا نهاية المطاف، حتى وإن كان شيءٌ داخلي يحاول إقناعي بالعكس في أمور كثيرة.

    مؤسسة الزواج ربما تكون هي الملجأ للباحث، والشبح الذي سيبقى مطاردًا للرافض. أعتقد أن ردودي لم تخرج عن هذه الأفكار بشكلٍ مختصر.

    على كل حال استمتعت بالنقاش، واستمتعت أيضًا بجلد الإخوة النباتيين الذين يعتقدون بأن نمط الحياة الصحي هو في الابتعاد أكثر عن البروتين الحيواني الذي يُسبب أمراضًا مرتبطة بالقلب وانسداد الشرايين، ليقوم الدكتور محمد بإقناع مناظره النباتي والبقية بأن العِلم قد تطور اليوم وأثبت أن عدونا الأول هو السكر المضاف، وليس البروتين والدهون الحيوانية (أعتذر من أحبتي النباتيين، أحبهم كلهم، ولا أحب نمط حياتهم).

    تم عمل تصويت نهاية الجلسة، ومن حسن الحظ إنني وآكل اللحوم قد فُزنا بجولاتنا، وقد كان ذلك الأسبوع الأخير قبل انغلاق العالم كله بسبب تفشي الجائحة. انهيته على خير. وعدت إلى ميامي في الأسبوع التالي.

     

     

  • انفراط العقد: نهاية امبراطورية أمريكا؟

    مقدمة:

    هذه المقالة (الاستثنائية)، خارج سياق المقالات المنشورة في المدونة. تشجّعت على نشرها بعد سلسلة مناقشات مع الأستاذ/ عمّار أحمد شطا، عن الوضع الراهن في الولايات المتحدة. شخصيًا لا أتناول أي مواضيع سياسية في منشوراتي، إلا إنني كباقي العوام، أهتم بالجانب الاجتماعي والإعلامي الذي يتأثر بشكلٍ مباشر من الوضع الاقتصادي والسياسي.

    الولايات المتحدة في وضع غريب وغير مفهوم بالنسبة لي، فلستُ اقتصاديًا أو محلل سياسي، إنما الفضول كان هو الدافع الأكبر للبحث عن إجابات لأسئلة كثيرًا ما تتبادر إلى ذِهني، أحد هذه الأسئلة هو: لماذا نرى كل هذه الفوضى في المشهد الإعلامي الأمريكي، خصوصًا في الجانب الاقتصادي؟ انتهت إجابة هذا السؤال بهذه المقالة، بقلم أبو محمد.

    قراءة ماتعة

    أحمد


    الأوطان لا تختفي إنما تختفي أو تتغير الأنظمة التي تحكم تلك الأوطان.. وبتغير الأنظمة قد تتغير حدود تلك الأوطان. الولايات المتحدة الأمريكية في طريقها إلى تغيير هيكلي كبير في نظامها الحاكم.

    ‎تسقط الأنظمة بانهيار أربعة أركان..

    ‎الأول، فقد الثقة بالنظام الحاكم من قبل المجتمع. تعاني الولايات المتحدة الأمريكية من فقد الثقة في آلية انتقال السلطة، والشك في نتائج الانتخابات منذ انتخابات العام ٢٠٠٠م. فقد الثقة أيضًا قد يكون بسبب تمحور نظام الحكم حول طبقة ضيقة من المستفيدين؛ المواطن الأمريكي فقد الثقة في النظام لهذه الأسباب.

    أو كما تقول الإعلامية السياسية، ميشيل مارتن:

    «الديمقراطيين يخوضون معركة حامية حول القيود الجديدة التي يحاول الجمهوريون فرضها على التنظيمات والانتخابات. يسعى الجمهوريون لتشديد الإجراءات الانتخابية. في المقابل يرى الديمقراطيين أن معظم هذه القيود ظالمة وعقابية وعنصرية التوجه، لإنها تستهدف الحد من اندفاع الأقليات والفئات الأكثر فقرا من المجتمع للمشاركة والانخراط في اللعبة الديموقراطية؛ الولايات المتحدة الامريكية لم تشهد قبل العام ٢٠١٦م هذا الانقسام الهائل بين الجمهوريين والديمقراطيين عندما يتعلق الأمر بآلية التصويت ومصداقية العملية الانتخابية».

    الركن الثاني؛ فقد النظام الحاكم للمصداقية. يعاني النظام الحاكم الأمريكي منذ عقود من أثقال متراكمة من الكذب والتدليس الصريح وإخفاء الحقائق، كما يعاني النظام الحاكم من النفاق السياسي المهيكل في صلب هيكلته.

    ومن أمثلة ذلك؛ قضية اغتيال الرئيس الامريكي الاسبق كيندي عام ١٩٦٣م. وأحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، واتهام روسيا بالكذب ومخالفة القانون الدولي بالرغم من حجم التلاعب الإعلامي التاريخي الذي ارتكبته أمريكا في حق المجتمع الدولي فيما يخص امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وكذلك احتلال الولايات المتحدة الامريكية للعراق وأفغانستان وبقاءها في الأراضي السورية دون وجه حق.

    أما الركن الثالث المسبب لسقوط الأنظمة فهو انقسام المجتمع بشكل حاد الى طرفي نقيض! هذه النقطة تحديدًا تحدثت عنها باستفاضة في مقالي السابق، المؤرخ في: ٢٢ يناير ٢٠٢٠م، حيث اشرت الى أن الانقسام الحاد في المجتمع الامريكي قد بدأ بالفعل.

    واليوم، وبعد أكثر من عامين على كتابة المقال، تتداعى الأحداث متسارعة لتؤكد -دون مبالغة- عن استعداد الرجل الأبيض صراحة للدخول في ثاني حرب أهلية في تاريخ الولايات المتحدة. لقد رأينا كيف أن نتائج التصويت الأخير عام ٢٠٢٠م والتي أتت لصالح الرئيس الحالي (جو بايدن) قد أشعلت فتيلًا من الفتنة، تم تداركها بعد ارتباك واضح، ونتج عنها أعمال شغب فاجأت القاصي والداني باقتحام أنصار الرئيس السابق مبنى الكونغرس.

    هذه النتائج الانتخابية -رغم تنظيمها الظاهر- لم تكن كافية لإقناع أغلب أفراد الشعب بنزاهتها أو التسليم بصحتها على أحسن تقدير. وهي بلا شك نواة لفتنة كبرى قادمة، ونار مختبئة تحت رماد الكبت الإعلامي الذي لا يتحدث صراحة حتى الآن عن حرب اهلية محتملة على الأبواب.

    الركن الرابع؛ والأهم في انهيار الأنظمة، والذي نشاهده أمام أعيننا هذه الأيام، هو فقد الثقة في أداء البنك المركزي وآلية عمله، وهي عادة ما تنتهي بانهيار قيمة العملة الوطنية!

    تمر الولايات المتحدة الأمريكية ولأول مرة منذ تأسيسها بتدني واضح في الثقة بفعالية البنك المركزي الأمريكي في إدارة السياسة النقدية واستقرار النظام المالي (بنك الاحتياط الفيدرالي).

    اذ يعكس لنا أداء الأسواق وبالأخص استمرار ارتفاع وتيرة المغامرة في أسواق المال، والاندفاع نحو العملات المشفرة واستمرار ارتفاع نمو مبيعات المنازل، وكذلك ارتفاع مستويات التوظيف واستمرار انخفاض مستويات البطالة إلى أرقام متدنية، لم تحدث قط في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، إلى عدم اكتراث المستثمرين بسعي الفيدرالي للحد من السيولة المفرطة في الاقتصاد والنمو المتسارع في أسعار المواد والطلب على العملة.

    وهنا يجب أن نتوقف قليلًا لنشرح الدور الهام الذي تلعبه إحدى أهم النظريات الاقتصادية التي تبناها الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد وهي نظرية “التوقعات الرشيدة”. إذ تركز النظرية على السلوك الإنساني المحتمل من كافة المتعاملين بالسوق على نحو يحقق مصلحتهم كأفراد وكمجموعات وفق توقعاتهم الرشيدة، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد الكلي والذي تتحكم فيه -نظريًا- المؤسسات المالية التابعة للنظم الحاكمة.

    تتحدث النظرية المذكورة عن الدور الكبير الذي تؤديه التوقعات الرسمية لمؤسسات الدولة في التأثير على سلوك المتعاملين في السوق.

    تشرح النظرية الدور الفعال الذي تستطيع المؤسسات الاقتصادية -مثل البنك المركزي الأمريكي- أن تلعبه في بناء توقعات اقتصادية مستقبلية استشرافية ثم تتطابق ذلك مع الواقع اعتمادًا على الخبرات التاريخية المتراكمة والمعلومات المتوفرة لدى تلك المؤسسات.

    الأمر الخطير هنا والذي يحصل اليوم ولأول مرة هو فشل الفيدرالي الامريكي في إقناع السوق بتوجهاته! فالبنك المركزي يسعى إلى إقناع المستثمرين بأن الحد من التضخم وتضييق السيولة والحد من الإقراض المصرفي برفع معدّل الفائدة يجب أن ينعكس على سلوكهم المالي والاستثماري بالتسلّح بالمزيد من الحذر والتحفّظ، إلا أن ما يحدث عمليا هو العكس تمامًا!

    فالاقتصاد الأمريكي يواصل توهجه وأسواق المال ما زالت تميل الى المغامرة والاندفاع، وكأنها تغني في واد بعيدًا عن التوجه الرسمي للبنك المركزي الذي يغني في واد آخر.

    يمر الاقتصاد الامريكي اليوم بأوضاع شبيهة بتلك التي سبقت انهيار السوق الأمريكي عام ٢٠٠٨م. ففي عرض تقديمي في شهر يوليو ٢٠٢٢م، قال رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي في سانت لويس جيمس بولارد: «إن وضع الاقتصاد الكلي الحالي للولايات المتحدة يضعف مصداقية بنك الاحتياط الفيدرالي فيما يتعلق بهدف الحد من التضخم»، ويضيف: «يتزايد عدد الأشخاص الذين يرون أن الاحتياطي الفيدرالي لم يعد قادرًا على التحكم في توجهات السوق، كما كان يفعل من قبل. ووسط هذا الانهيار في مستوى الثقة العامة، أصبح من الضروري أن نفهم الاتجاه التاريخي الطويل الذي قاد الاقتصاد الامريكي لما وصل إليه الآن».

    هذا الأمر، إن استمر، سيكمل حلقة انهيار النظام الأمريكي اقتصاديًا بعد أن انهارت الأركان الثلاث الأولى من قبل.

    ‎ لا تعد كتابة هذه السطور تشاؤمًا بقدر ما هي محاولة جدية لقراءة المستقبل واستشرافه، ولا يمكن للمتخصصين انكار تعدد وتراكم التحديات أمام النظام الحاكم في الولايات المتحدة الامريكية التي أصبحت ظاهرة للعيان أكثر من أي وقتٍ مضى، الأمر الذي سيكون له أثرٌ بالغٌ في تغيير المشهد الأمريكي الحالي، اقتصاديًا وسياسيًا، كما سيكون زلزالا يغير خارطة المصالح والتحالفات السياسية والاقتصادية العالمية لعقود قادمة.

     

     

  • أعطيني نفس طلبه

    «الإنسان هو المخلوق الذي لا يعرف ماذا يرغب، ويلجأ إلى الآخرين ليقرر رأيه.»

        – رينيه جيرارد

    أجلس مع أحد أقاربي اليافعين، وقد لاحظت أن إجابته المعتادة -ككثير ممن في عمره- هي: «أي شيء»، عندما يسأله الآخرين ماذا تريد أن تأكل أو تشرب؟

    طلبت منه أن يجعل الحياة أسهل بتحديد ما يريد؛ «شاهي أم قهوة؟»

    أخبرته: اطلب «قهوة» إن كنت غير متأكد، لا تتردد. الخيار هنا يربي الإنسان -في رأيي- على الحسم وعدم التردد، ويربي مع الخبرة ألا يندم على قراراته في المستقبل حتى وإن كان قرارًا غير مهم.

    أعتقد أن نسبة لا بأس بها من البشر لا تعرف حقًا ماذا تريد. لا أقصد الأهداف والأحلام والطموحات والأشياء الكبيرة، بل أقصد حِزمة الخيارات الصغيرة التي تُشكِّل يومنا، وحياتنا بعدها. لم يُعِجب الكثير من القراء مثلًا اقتراحي بأن نطلب ما نريده على العشاء من الداعين لنا. في حين أن نفس القّراء تصيبهم حيرة عن الخيارات التي يجب أن يوفروها لضيوفهم.

    تأمل أصدقاءك عندما تذهب لزيارة المطعم أو المقهى، ستجد الكثير منهم يتجهون لخيار «أعطيني نفس طلبه». الخوف هنا هو من فكرة تبنينا ما يعتقد الآخرون أنه خيارًا مناسبًا لهم ليكون لنا. ومع الوقت تتحول هذه القرارات لأشياء أكبر، كالسيارة والمنزل والسفر.

    تُبنى الكثير من القرارات في حياتنا من خلال عيون الآخرين. لا شك في ذلك. ولكن التمرين المستمر على الحسم يساهم ليس فقط بجعل الحياة أسهل قليلًا، بل يربي -في رأيي أيضًا- إحساسًا بالثقة بالنفس. يُصبح الإنسان بعدها متفردًا برأيه، سيعي مع الوقت ماذا يُفضّل وماذا يرفض بوضوح أكبر.

     

  • من يذكر مطعم هابي ديز وبندروزا؟

    يتذكّر مَن في جيلي (والأكبر قليلًا) من سكان مدينة جدة هذه المطاعم التي كانت ملئ البصر في التسعينات وبدايات الألفية. بحيرة القطار، بول يونكلز، وجزيرة الأطفال، والعشرات من الأماكن التي كانت تتصارع في انسجامها مع المجتمع الجدّاوي ضد التوجّس الديني وضغوطًا اجتماعية أخرى. هذه الأماكن كانت نتاجًا لمجتمع يحب الحياة ويعرف كيف يتعايش بأقل الوسائل.. يخلق منها ذكريات وقصص، تطفح بمخزونها الذي يلهب الأحاسيس. جعلت هذه الأماكن من جدة مدينة لا تتناسب مع السهر ولا الاستيقاظ المبكر. مدينة تتوازن حتى في سلبياتها.

    امتازت معها الفتاة الجدّاوية بخفة ظِل ومرونة تساعدها على الانسجام مع كل رفقة وكل ضيف، تشعرهم كأنهم صديقات منذ زمنٍ طويل. تنسجم مع الجارة الشامية وابنة البادية، وفتاة الجنوب التي انتقلت مؤخرًا، ولا تدرك أصلًا أن هناك فروقًا بينها وبين فتيات مكة المكرمة والمدينة المنورة حتى تكبُر قليلًا، وتفهم أيضًا أن اختلاف اللهجات مع البقية اختلاف طفيف يذوب بعد أيام ليكون تحت مظلة واحدة.

    لا تحكم المحافِظة على غير المحافِظة، ولا ترى إلا كل خير في الأخريات عندما يجد الجد، أو كما تقول والدتي: «إن أهديتهم أي شيء بسيط سيشكرونك وكأنك اشتريت لهم أغلى الأشياء، ليسوا قاسيين في زعلهم، ومتفهّمين للظروف.. لأنهم مجتمع خير وبساطة».

    في حين أن الشاب الجدّاوي يمتاز بكونه لا يعرف أصلًا إلا أن يكون لطيفًا. يحب البحر، والبلوت، والمبادرات الاجتماعية الخيرية، تجده في مختلف المناصب الحكومية والخاصة اليوم بعد أن تحمّل المسؤولية وانتهى من مراهقة وفترة شباب طبيعية، قضى جزءً منها مع ذكريات لا يود أن ينساها، ليكون بعدها مبادرًا في صناعة التغيير، يستطيع أكثر من كثيرين الانسجام في أي بقعة في العالم، هو معتاد على الاختلاف، ومتقبل للتغيير، يحب الضحك الذي اعتاد عليه، ويحب أن يكون رجلًا إن اختار كما اختار دومًا.

    طاقة المكان انعكاس لأهله، تستشعرها فور وصولك له.

    وعندما تختفي الأماكن، فذكراها لا تختفي.. تظل تشعل الحنين داخلك. يهوِّن عليك أن زينة جديدة قد زينتها.

    المكان بأهله.. وجدة في الخير بأهلها وأماكنها التي ذهبت والتي ستبقى.

     

  • العزلة تحميك من الوحدة

    الوحدة إحساسٌ ضمني، لا يعبّر عن حاجة الإنسان إلى المزيد من الأشخاص، بل للحاجة إلى علاقات أعمق

    يمكن للإنسان أن يشعر بالوحدة وسط أصدقائه وعائلته، بينما قد لا يشعر من يملك بضعة أصدقاء مقرّبين بذلك بسبب عمق علاقته بهم. آخر يشعر أنه شديد الوحدة رغم أنه ينام بجوار شخص لسنوات، دون أن يملك معه اتصالًا حقيقي

    في الحقيقة، اكتشف جون كاتشيوبو، أحد أشهر الباحثين في مجال الوحدة، أنَّ الإنسان الوحيد يقابل تقريبًا نفس عدد الأشخاص الذيي يقابلونهم غير الوحيدين، المسألة ليست في نقص أو زيادة في عدد من حولنا.

    العزلة شيء آخر، هي انقطاع اختياري، يحتاجه الإنسان من فترة إلى أخرى، يعيد حساباته فيها، يخطط لحياته، ويتأمل حاله ومستقبله، وبالطبع يحصل على وقت للتفكير العميق دون مقاطعة

    «عندما يقرر الإنسان ألَّا يفكر، فهو يقرر ألَّا يشعر بالألم. وعندما يؤجل مواجهة الألم، فهو يختار الحصول على ألم أكبر في المستقبلكما يشرح بيك؛ ويرتبط الألم بعدم القدرة على التفكير والتريُّث، في حين أن إحدى الطرق الفعّالة لينمو الإنسان في حياتهكما يقول مرة أخرى بيكهي في تخصيص وقت منتظم للجلوس بهدوء دون مقاطعة للتفكير والتأمل، أو ما نُسمِّيه «العُزلة الاختيارية».

    يشجع إيريك باركر في كتابه اللطيف «أن تلعب بشكل جيد مع الآخرين» على الحصول على بعض العزلة من وقتٍ إلى آخر، في سبيل إضفاء المزيد من الثراء على العلاقات الحالية. وطبعًا في محاولة جدية لتجنب إحساس الوحدة؛ فالارتباط الزائد عن الحد بالآخرين ربما يربك حياتنا، ويحولّنا إلى مستجيبين ومتفاعلين، بدلًا من ممتنين مبادرين لقيادة الحياة إلى اتجاهٍ أفضل.

    العُزلة ضرورة مع تُخمة التواصل، مثلما أصبحت مشاكلنا الصحية سببها البدانة أكثر من نقص الموارد الغذائية.

زر الذهاب إلى الأعلى