الشهر: مارس 2023

  • انفراط العقد: نهاية امبراطورية أمريكا؟

    مقدمة:

    هذه المقالة (الاستثنائية)، خارج سياق المقالات المنشورة في المدونة. تشجّعت على نشرها بعد سلسلة مناقشات مع الأستاذ/ عمّار أحمد شطا، عن الوضع الراهن في الولايات المتحدة. شخصيًا لا أتناول أي مواضيع سياسية في منشوراتي، إلا إنني كباقي العوام، أهتم بالجانب الاجتماعي والإعلامي الذي يتأثر بشكلٍ مباشر من الوضع الاقتصادي والسياسي.

    الولايات المتحدة في وضع غريب وغير مفهوم بالنسبة لي، فلستُ اقتصاديًا أو محلل سياسي، إنما الفضول كان هو الدافع الأكبر للبحث عن إجابات لأسئلة كثيرًا ما تتبادر إلى ذِهني، أحد هذه الأسئلة هو: لماذا نرى كل هذه الفوضى في المشهد الإعلامي الأمريكي، خصوصًا في الجانب الاقتصادي؟ انتهت إجابة هذا السؤال بهذه المقالة، بقلم أبو محمد.

    قراءة ماتعة

    أحمد


    الأوطان لا تختفي إنما تختفي أو تتغير الأنظمة التي تحكم تلك الأوطان.. وبتغير الأنظمة قد تتغير حدود تلك الأوطان. الولايات المتحدة الأمريكية في طريقها إلى تغيير هيكلي كبير في نظامها الحاكم.

    ‎تسقط الأنظمة بانهيار أربعة أركان..

    ‎الأول، فقد الثقة بالنظام الحاكم من قبل المجتمع. تعاني الولايات المتحدة الأمريكية من فقد الثقة في آلية انتقال السلطة، والشك في نتائج الانتخابات منذ انتخابات العام ٢٠٠٠م. فقد الثقة أيضًا قد يكون بسبب تمحور نظام الحكم حول طبقة ضيقة من المستفيدين؛ المواطن الأمريكي فقد الثقة في النظام لهذه الأسباب.

    أو كما تقول الإعلامية السياسية، ميشيل مارتن:

    «الديمقراطيين يخوضون معركة حامية حول القيود الجديدة التي يحاول الجمهوريون فرضها على التنظيمات والانتخابات. يسعى الجمهوريون لتشديد الإجراءات الانتخابية. في المقابل يرى الديمقراطيين أن معظم هذه القيود ظالمة وعقابية وعنصرية التوجه، لإنها تستهدف الحد من اندفاع الأقليات والفئات الأكثر فقرا من المجتمع للمشاركة والانخراط في اللعبة الديموقراطية؛ الولايات المتحدة الامريكية لم تشهد قبل العام ٢٠١٦م هذا الانقسام الهائل بين الجمهوريين والديمقراطيين عندما يتعلق الأمر بآلية التصويت ومصداقية العملية الانتخابية».

    الركن الثاني؛ فقد النظام الحاكم للمصداقية. يعاني النظام الحاكم الأمريكي منذ عقود من أثقال متراكمة من الكذب والتدليس الصريح وإخفاء الحقائق، كما يعاني النظام الحاكم من النفاق السياسي المهيكل في صلب هيكلته.

    ومن أمثلة ذلك؛ قضية اغتيال الرئيس الامريكي الاسبق كيندي عام ١٩٦٣م. وأحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م، واتهام روسيا بالكذب ومخالفة القانون الدولي بالرغم من حجم التلاعب الإعلامي التاريخي الذي ارتكبته أمريكا في حق المجتمع الدولي فيما يخص امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وكذلك احتلال الولايات المتحدة الامريكية للعراق وأفغانستان وبقاءها في الأراضي السورية دون وجه حق.

    أما الركن الثالث المسبب لسقوط الأنظمة فهو انقسام المجتمع بشكل حاد الى طرفي نقيض! هذه النقطة تحديدًا تحدثت عنها باستفاضة في مقالي السابق، المؤرخ في: ٢٢ يناير ٢٠٢٠م، حيث اشرت الى أن الانقسام الحاد في المجتمع الامريكي قد بدأ بالفعل.

    واليوم، وبعد أكثر من عامين على كتابة المقال، تتداعى الأحداث متسارعة لتؤكد -دون مبالغة- عن استعداد الرجل الأبيض صراحة للدخول في ثاني حرب أهلية في تاريخ الولايات المتحدة. لقد رأينا كيف أن نتائج التصويت الأخير عام ٢٠٢٠م والتي أتت لصالح الرئيس الحالي (جو بايدن) قد أشعلت فتيلًا من الفتنة، تم تداركها بعد ارتباك واضح، ونتج عنها أعمال شغب فاجأت القاصي والداني باقتحام أنصار الرئيس السابق مبنى الكونغرس.

    هذه النتائج الانتخابية -رغم تنظيمها الظاهر- لم تكن كافية لإقناع أغلب أفراد الشعب بنزاهتها أو التسليم بصحتها على أحسن تقدير. وهي بلا شك نواة لفتنة كبرى قادمة، ونار مختبئة تحت رماد الكبت الإعلامي الذي لا يتحدث صراحة حتى الآن عن حرب اهلية محتملة على الأبواب.

    الركن الرابع؛ والأهم في انهيار الأنظمة، والذي نشاهده أمام أعيننا هذه الأيام، هو فقد الثقة في أداء البنك المركزي وآلية عمله، وهي عادة ما تنتهي بانهيار قيمة العملة الوطنية!

    تمر الولايات المتحدة الأمريكية ولأول مرة منذ تأسيسها بتدني واضح في الثقة بفعالية البنك المركزي الأمريكي في إدارة السياسة النقدية واستقرار النظام المالي (بنك الاحتياط الفيدرالي).

    اذ يعكس لنا أداء الأسواق وبالأخص استمرار ارتفاع وتيرة المغامرة في أسواق المال، والاندفاع نحو العملات المشفرة واستمرار ارتفاع نمو مبيعات المنازل، وكذلك ارتفاع مستويات التوظيف واستمرار انخفاض مستويات البطالة إلى أرقام متدنية، لم تحدث قط في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، إلى عدم اكتراث المستثمرين بسعي الفيدرالي للحد من السيولة المفرطة في الاقتصاد والنمو المتسارع في أسعار المواد والطلب على العمالة.

    وهنا يجب أن نتوقف قليلًا لنشرح الدور الهام الذي تلعبه إحدى أهم النظريات الاقتصادية التي تبناها الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد وهي نظرية “التوقعات الرشيدة”. إذ تركز النظرية على السلوك الإنساني المحتمل من كافة المتعاملين بالسوق على نحو يحقق مصلحتهم كأفراد وكمجموعات وفق توقعاتهم الرشيدة، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد الكلي والذي تتحكم فيه -نظريًا- المؤسسات المالية التابعة للنظم الحاكمة.

    تتحدث النظرية المذكورة عن الدور الكبير الذي تؤديه التوقعات الرسمية لمؤسسات الدولة في التأثير على سلوك المتعاملين في السوق.

    تشرح النظرية الدور الفعال الذي تستطيع المؤسسات الاقتصادية -مثل البنك المركزي الأمريكي- أن تلعبه في بناء توقعات اقتصادية مستقبلية استشرافية ثم تتطابق ذلك مع الواقع اعتمادًا على الخبرات التاريخية المتراكمة والمعلومات المتوفرة لدى تلك المؤسسات.

    الأمر الخطير هنا والذي يحصل اليوم ولأول مرة هو فشل الفيدرالي الامريكي في إقناع السوق بتوجهاته! فالبنك المركزي يسعى إلى إقناع المستثمرين بأن الحد من التضخم وتضييق السيولة والحد من الإقراض المصرفي برفع معدّل الفائدة يجب أن ينعكس على سلوكهم المالي والاستثماري بالتسلّح بالمزيد من الحذر والتحفّظ، إلا أن ما يحدث عمليا هو العكس تمامًا!

    فالاقتصاد الأمريكي يواصل توهجه وأسواق المال ما زالت تميل الى المغامرة والاندفاع، وكأنها تغني في واد بعيدًا عن التوجه الرسمي للبنك المركزي الذي يغني في واد آخر.

    يمر الاقتصاد الامريكي اليوم بأوضاع شبيهة بتلك التي سبقت انهيار السوق الأمريكي عام ٢٠٠٨م. ففي عرض تقديمي في شهر يوليو ٢٠٢٢م، قال رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي في سانت لويس جيمس بولارد: «إن وضع الاقتصاد الكلي الحالي للولايات المتحدة يضعف مصداقية بنك الاحتياط الفيدرالي فيما يتعلق بهدف الحد من التضخم»، ويضيف: «يتزايد عدد الأشخاص الذين يرون أن الاحتياطي الفيدرالي لم يعد قادرًا على التحكم في توجهات السوق، كما كان يفعل من قبل. ووسط هذا الانهيار في مستوى الثقة العامة، أصبح من الضروري أن نفهم الاتجاه التاريخي الطويل الذي قاد الاقتصاد الامريكي لما وصل إليه الآن».

    هذا الأمر، إن استمر، سيكمل حلقة انهيار النظام الأمريكي اقتصاديًا بعد أن انهارت الأركان الثلاث الأولى من قبل.

    ‎ لا تعد كتابة هذه السطور تشاؤمًا بقدر ما هي محاولة جدية لقراءة المستقبل واستشرافه، ولا يمكن للمتخصصين انكار تعدد وتراكم التحديات أمام النظام الحاكم في الولايات المتحدة الامريكية التي أصبحت ظاهرة للعيان أكثر من أي وقتٍ مضى، الأمر الذي سيكون له أثرٌ بالغٌ في تغيير المشهد الأمريكي الحالي، اقتصاديًا وسياسيًا، كما سيكون زلزالا يغير خارطة المصالح والتحالفات السياسية والاقتصادية العالمية لعقود قادمة.

     

     

  • أعطيني نفس طلبه

    «الإنسان هو المخلوق الذي لا يعرف ماذا يرغب، ويلجأ إلى الآخرين ليقرر رأيه.»

        – رينيه جيرارد

    أجلس مع أحد أقاربي اليافعين، وقد لاحظت أن إجابته المعتادة -ككثير ممن في عمره- هي: «أي شيء»، عندما يسأله الآخرين ماذا تريد أن تأكل أو تشرب؟

    طلبت منه أن يجعل الحياة أسهل بتحديد ما يريد؛ «شاهي أم قهوة؟»

    أخبرته: اطلب «قهوة» إن كنت غير متأكد، لا تتردد. الخيار هنا يربي الإنسان -في رأيي- على الحسم وعدم التردد، ويربي مع الخبرة ألا يندم على قراراته في المستقبل حتى وإن كان قرارًا غير مهم.

    أعتقد أن نسبة لا بأس بها من البشر لا تعرف حقًا ماذا تريد. لا أقصد الأهداف والأحلام والطموحات والأشياء الكبيرة، بل أقصد حِزمة الخيارات الصغيرة التي تُشكِّل يومنا، وحياتنا بعدها. لم يُعِجب الكثير من القراء مثلًا اقتراحي بأن نطلب ما نريده على العشاء من الداعين لنا. في حين أن نفس القّراء تصيبهم حيرة عن الخيارات التي يجب أن يوفروها لضيوفهم.

    تأمل أصدقاءك عندما تذهب لزيارة المطعم أو المقهى، ستجد الكثير منهم يتجهون لخيار «أعطيني نفس طلبه». الخوف هنا هو من فكرة تبنينا ما يعتقد الآخرون أنه خيارًا مناسبًا لهم ليكون لنا. ومع الوقت تتحول هذه القرارات لأشياء أكبر، كالسيارة والمنزل والسفر.

    تُبنى الكثير من القرارات في حياتنا من خلال عيون الآخرين. لا شك في ذلك. ولكن التمرين المستمر على الحسم يساهم ليس فقط بجعل الحياة أسهل قليلًا، بل يربي -في رأيي أيضًا- إحساسًا بالثقة بالنفس. يُصبح الإنسان بعدها متفردًا برأيه، سيعي مع الوقت ماذا يُفضّل وماذا يرفض بوضوح أكبر.

     

  • من يذكر مطعم هابي ديز وبندروزا؟

    يتذكّر مَن في جيلي (والأكبر قليلًا) من سكان مدينة جدة هذه المطاعم التي كانت ملئ البصر في التسعينات وبدايات الألفية. بحيرة القطار، بول يونكلز، وجزيرة الأطفال، والعشرات من الأماكن التي كانت تتصارع في انسجامها مع المجتمع الجدّاوي ضد التوجّس الديني وضغوطًا اجتماعية أخرى. هذه الأماكن كانت نتاجًا لمجتمع يحب الحياة ويعرف كيف يتعايش بأقل الوسائل.. يخلق منها ذكريات وقصص، تطفح بمخزونها الذي يلهب الأحاسيس. جعلت هذه الأماكن من جدة مدينة لا تتناسب مع السهر ولا الاستيقاظ المبكر. مدينة تتوازن حتى في سلبياتها.

    امتازت معها الفتاة الجدّاوية بخفة ظِل ومرونة تساعدها على الانسجام مع كل رفقة وكل ضيف، تشعرهم كأنهم صديقات منذ زمنٍ طويل. تنسجم مع الجارة الشامية وابنة البادية، وفتاة الجنوب التي انتقلت مؤخرًا، ولا تدرك أصلًا أن هناك فروقًا بينها وبين فتيات مكة المكرمة والمدينة المنورة حتى تكبُر قليلًا، وتفهم أيضًا أن اختلاف اللهجات مع البقية اختلاف طفيف يذوب بعد أيام ليكون تحت مظلة واحدة.

    لا تحكم المحافِظة على غير المحافِظة، ولا ترى إلا كل خير في الأخريات عندما يجد الجد، أو كما تقول والدتي: «إن أهديتهم أي شيء بسيط سيشكرونك وكأنك اشتريت لهم أغلى الأشياء، ليسوا قاسيين في زعلهم، ومتفهّمين للظروف.. لأنهم مجتمع خير وبساطة».

    في حين أن الشاب الجدّاوي يمتاز بكونه لا يعرف أصلًا إلا أن يكون لطيفًا. يحب البحر، والبلوت، والمبادرات الاجتماعية الخيرية، تجده في مختلف المناصب الحكومية والخاصة اليوم بعد أن تحمّل المسؤولية وانتهى من مراهقة وفترة شباب طبيعية، قضى جزءً منها مع ذكريات لا يود أن ينساها، ليكون بعدها مبادرًا في صناعة التغيير، يستطيع أكثر من كثيرين الانسجام في أي بقعة في العالم، هو معتاد على الاختلاف، ومتقبل للتغيير، يحب الضحك الذي اعتاد عليه، ويحب أن يكون رجلًا إن اختار كما اختار دومًا.

    طاقة المكان انعكاس لأهله، تستشعرها فور وصولك له.

    وعندما تختفي الأماكن، فذكراها لا تختفي.. تظل تشعل الحنين داخلك. يهوِّن عليك أن زينة جديدة قد زينتها.

    المكان بأهله.. وجدة في الخير بأهلها وأماكنها التي ذهبت والتي ستبقى.

     

  • العزلة تحميك من الوحدة

    الوحدة إحساسٌ ضمني، لا يعبّر عن حاجة الإنسان إلى المزيد من الأشخاص، بل للحاجة إلى علاقات أعمق

    يمكن للإنسان أن يشعر بالوحدة وسط أصدقائه وعائلته، بينما قد لا يشعر من يملك بضعة أصدقاء مقرّبين بذلك بسبب عمق علاقته بهم. آخر يشعر أنه شديد الوحدة رغم أنه ينام بجوار شخص لسنوات، دون أن يملك معه اتصالًا حقيقي

    في الحقيقة، اكتشف جون كاتشيوبو، أحد أشهر الباحثين في مجال الوحدة، أنَّ الإنسان الوحيد يقابل تقريبًا نفس عدد الأشخاص الذيي يقابلونهم غير الوحيدين، المسألة ليست في نقص أو زيادة في عدد من حولنا.

    العزلة شيء آخر، هي انقطاع اختياري، يحتاجه الإنسان من فترة إلى أخرى، يعيد حساباته فيها، يخطط لحياته، ويتأمل حاله ومستقبله، وبالطبع يحصل على وقت للتفكير العميق دون مقاطعة

    «عندما يقرر الإنسان ألَّا يفكر، فهو يقرر ألَّا يشعر بالألم. وعندما يؤجل مواجهة الألم، فهو يختار الحصول على ألم أكبر في المستقبلكما يشرح بيك؛ ويرتبط الألم بعدم القدرة على التفكير والتريُّث، في حين أن إحدى الطرق الفعّالة لينمو الإنسان في حياتهكما يقول مرة أخرى بيكهي في تخصيص وقت منتظم للجلوس بهدوء دون مقاطعة للتفكير والتأمل، أو ما نُسمِّيه «العُزلة الاختيارية».

    يشجع إيريك باركر في كتابه اللطيف «أن تلعب بشكل جيد مع الآخرين» على الحصول على بعض العزلة من وقتٍ إلى آخر، في سبيل إضفاء المزيد من الثراء على العلاقات الحالية. وطبعًا في محاولة جدية لتجنب إحساس الوحدة؛ فالارتباط الزائد عن الحد بالآخرين ربما يربك حياتنا، ويحولّنا إلى مستجيبين ومتفاعلين، بدلًا من ممتنين مبادرين لقيادة الحياة إلى اتجاهٍ أفضل.

    العُزلة ضرورة مع تُخمة التواصل، مثلما أصبحت مشاكلنا الصحية سببها البدانة أكثر من نقص الموارد الغذائية.

زر الذهاب إلى الأعلى