تخطى الى المحتوى

ما تعلمته من وجود الروتين مؤخرًا

أحمد حسن مُشرِف
أحمد حسن مُشرِف
ما تعلمته من وجود الروتين مؤخرًا
@rawpixel

عندما باشرت بكتابة كتاب ثورة الفن: كيف يعمل الفنان وكيف يعمل الآخرون (٢٧ سنة آنذاك)، لم أتوقع أمرين. الأول: أن الكتاب سيلقى الاستحسان من قبل القُرّاء الكِرام للدرجة التي تجعلني أُقرر أن أمضي جزءً كبيرًا من مستقبلي مع حِرفة الكتابة، والأمر الثاني: هو كثرة السؤال والنقاش عن فصل واحد فقط تحدثت عنه في الكتاب: الروتين.

كأي شاب آخر، أُعاني تحديًا في الحفاظ على رباط الجأش، والانضباط بشكلٍ عام في حياتي العملية، فالملهيات كثيرة جدًا، واهتماماتي الشخصية أكثر. ومثلي ومثل أي شابٍ آخر أيضًا أُحِب الحياة بكل تفاصيلها.

عندما تشرّبت واقتنعت تمامًا بمفهوم أهمية وجود روتين يومي في حياة أي إنسان طموح أو فنّان (وبالتالي سوّقت له في كتاباتي)، أصبحت أستغرب كثرة السؤال عن هذا الفصل من قبل الآخرين، فما يعتاد عليه الإنسان في حياته أحيانًا سيبدو غريبًا عندما يسمعه بشكلٍ متكرر من أفواه الآخرين «أحقًا وجود الروتين مهم في هذه الحياة؟» «الروتين يا أخي مُمل!» أو.. «أنا لا أستطيع أن أعيش في روتين يومي، فالحياة تتطلب التجديد المستمر» وهذه الجُمل بالطبع تحمل داخلها استنكارًا غير معلن عن فكرة أهمية وجود الروتين اليومي المتكرر في حياة المُعلقين الأفاضل.

وفي الحقيقة، كل التعليقات صحيحة إلى حدٍ بعيد. ولكن، عندما أتحدث عن الروتين، أقصد بشكلٍ مباشر الروتين اليومي الذي نختاره نحن لأنفسنا، وليس الروتين الذي يختارنا ويرمي بنا إلى الملل. مشكلة الروتين أنه يرتبط بالدرجة الأولى بأعمالنا والتي يغلب علينا فيها اقتناعنا بأنها أعمال يومية على عاتقنا (نقوم بها غصبًا عنّا، أو من أجل الحصول على راتب نهاية الشهر) أكثر منها اختيارية. فالأغلبية مع الأسف تذهب إلى عملٍ لا تُحبه كل يوم، وأصبحوا يبرمجون أنفسهم على هذا العمل، والبقية القليلة من وقت اليوم يُصبح عبارة عن منفذٍ للهروب والاسترخاء أكثر منه عن البحث عن الاهتمامات الحقيقية الأخرى.

السؤال يجب أن يدور حول: ما هو الروتين الممتع الذي اختاره لنفسي في ظل الالتزامات العملية؟ وليس سؤال: كيف يجب أن تُقنعني أنني يجب أن ألتزِم بفِعل نفس الشيء كل يوم؟

أحاول هذا الشهر تطبيق ما تعلمته من كتاب Atomic Habits للكاتب James Clear وهو الكتاب الذي يتحدث عن التركيز على تغيير وبناء عادات صغيرة جدًا حتى يُصبح الإنسان أكثر كفاءة في حياته وعمله. على كل حال، لفتني مفهومين في الكتاب الأول أن المشكلة في عادات الأشخاص السيئة ليست لسوئهم هم، إنما لسوء نظامهم اليومي، وعندما يحاول أي شخص أن يُغير شيئًا ما سيء في يومه، فيشجعه الكاتب على تغيير النظام الكامل عوضًا عن محاولة تغيير هذا الشيء أو هذه العادة باستخدام الإرادة. فالإرادة سرعان ما تضعُف، أما النظام فسيبقى نظام. سآتي لتفصيل هذه النقطة.

أما المفهوم الثاني فهو أن هناك أربعة نقاط يجب أن تكون موجودة في كل عادة حسنة جديدة تُضيفها خلال يومك:

  1. اجعلها شديدة الوضوح.
  2. اجعلها مُغرية لكي تقوم بها يوميًا.
  3. اجعلها سهلة.
  4. يجب أن تُشعرك مباشرًة بالرضا.

وشرحًا للنقطة الأولى وتعقيبًا على الثانية، فإنني وجدت أن الروتين لكي يستمر بعد خطوة «اختيار الروتين الأنسب لحياتنا» فإن إسقاط الأمور الأخرى عليه والتي تصُب في إحساس الرضا مطلب مهم.

مثال: لا أحب شخصيًا الرياضات الفردية، فهي تُشعرني بملل حقيقي، رغم اقتناعي بأهمية الالتزام بالرياضة بشكل يومي. فقررت تنفيذ الأربعة نقاط في المفهوم الثاني.

أصبحت أذهب إلي النادي يوميًا، ليس حبّا في الرياضة، إنما للجلوس على الدراجة لمدة نصف ساعة أو أكثر (ارتفعت لاحقًا إلى خمسة وأربعين دقيقة، والهدف المقبل ساعة ربما) وأمامي شاشة الآيباد مفتوح فيها كتابًا رائع أقرأه هذه الأيام على تطبيق Kindle. وهنا مُحصلة هذا الأمر:

  1. اجعلها شديدة الوضوح: ٣٠ دقيقة فقط على الدراجة أو على جهاز رياضي آخر.
  2. اجعلها مُغرية لكي تقوم بها يوميًا: أُحب القراءة جدًا، فأصبحت أرغم نفسي على الذهاب للنادي من أجل القراءة، وليس الرياضة بشكل مجرد.
  3. اجعلها سهلة: الدراجة أو آلة Elliptical تساعدني على القراءة (رغم الإرهاق الشديد الذي يُصاحب التمرين الثاني).
  4. يجب أن تُشعرك مباشرًة بالرضا: أربعين صفحة من القراءة إضافًة إلى نصف ساعة رياضة، أفضل من أي أمرٍ آخر يُصرف فيه الوقت بصراحة.

ولأكون منصفًا، هذا جزء لا يتجاوز الساعتين من يومي، وهو مختص بفقرة الرياضة اليومية، ومن المجدي أن أعِد القارئ الكريم بمحاولتي الجادّة بالالتزام، فيجب أن أكون مسؤولًا عمّا أقول، خصوصًا في نقطة ضعف سابقة لدي، كالرياضة.

التحدي الآخر الذي أصبحت أواجهه، هو كيفية الوصول لأفضل طريقة أضمن فيها تناول أكل يومي يحمل الصفات التالية: صحي، لذيذ، عملي، لا يُضيع الوقت، رخيص، وذو جودة مقبولة. والأهم من هذا كله، أنني أستطيع الوصول إليه يوميًا وبسرعة، دون إعطاء فرصة للتفكير وسؤال: ماذا يجب علي أن آكل اليوم؟ لأن هذا السؤال سيفتح أفخاخًا عديدة للتعرض لأكل لا يتناسب مع المواصفات المطلوبة.

ووجدت الحل.. بوفيه السلطة في مطعم «ستيك هاوس» في جدة، يبعد عن مكتبي أقل من خمسة دقائق بالسيارة، يملكون أفضل بوفيه سلطات وشوربة (يتضمن خيارات عديدة من البروتين أيضًا: دجاج، شوربة جيدة جدًا، بيض مسلوق، تونة. وأضافوا مؤخرًا: بروكلي، وزهرة، وبنجر، وزيتون) كل ذلك، يمكنك الحصول عليه إضافًة إلى مشروبي المفضل (آيس تي دون سكر) بـ ٣٥ ريال.

أصبحت دون تفكير، أذهب إلى المطعم عندما أجوع (كل يوم)، أدخل مباشرًة إلى البوفيه قبل أن أجلس على الطاولة، أعبئ الصحن بالكامل، أجلس على الطاولة أطلب المشروب والحساب (كانوا يتفاجؤوا الموظفين بدايًة مني، حتى اعتادوا هذا الأمر) . كل ذلك، لا يأخذ مني أكثر من خمسة وثلاثين دقيقة (متضمنًة مشوار الذهاب والعودة من المكتب).

تخيلت أنني سأقوم بهذا الأمر كل يوم، ووجدت أن مبلغ ٧٠٠ ريال في الشهر على وجبة بمثابة وجبتين في محل نظيف، استثمار لا بأس به. ناهيك عن وجبة العشاء في البيت بعدها بسبعة ساعات مع أُسرتي. أصبح كل من حولي يعلمون أين يجدوني وقت الغداء، أصبحت لا أفاوض ولا أفضل أي خيارات أخرى بصراحة. وعند أي مكالمة من صديق حول موضوع الغداء، إجابتي هي.. هي، كل يوم.

تبقى لي التحدي الأكبر والذي أعاني منه منذ زمن، وهو النوم المبكر. أحب فكرة النوم المبكر لعدة أسباب لعل أهمها باختصار، أنني أصبحت استغل الساعة الأولى في الصباح الباكر (إن نمت واستيقظت مبكرًا) لأخذ دورة أونلاين مع جماعة Master Class فأنا في ذلك الوقت ذو عقل يقظ ودون إزعاجات، أساعد بعدها في إيقاظ بناتي وأنا في مزاج جيد لأوصلهم إلى المدرسة وقبلها يكون هناك أحيانًا مُتسع لساعة النادي، وبالطبع يُستكمل اليوم بمزاج جيد حتى وقت الكتابة لثلاثة أو أربع ساعات ابتداءً من ٨:٣٠ صباحًا. ومن ثم الانشغال في الأعمال الأخرى. وفي حالة عدم الاستيقاظ المبكر، تؤجل ساعة النادي إلى ما بعد الظهر، وهو شيء أقوم به حاليًا ولا أحبذه جدًا بصراحة، لكنه يظل أفضل من أي روتين سابق.

شاهدي، أن جميع الخيارات في اليوم أصبحت ملك يدي ومُقررة مسبقًا. فهو بكل تفاصيله روتينًا جيد يشعرني بالرضا والإنجاز، وهناك جوانب أخرى مثيرة اكتشفتها أيضًا وتبنيتها في حياتي مؤخرًا، سأتحدث عنها في مقالتي القادمة.

سيكلوجيا الإنسانعن العمل وريادة الأعمالمقالات عن الانتاجيةمقالات عن سلوك الفنانين

أحمد حسن مُشرِف Twitter

كاتب ومدون سعودي، له عدة إصدارات، ومئات المقالات المنشورة. شريك مؤسس في بعض المشاريع الصغيرة، مقيم في مدينة جدة.

تعليقات


المقالات ذات الصلة

للأعضاء عام

كيف نتعامل مع كثرة الأهداف في حياتنا؟ (ملفّات القرّاء ٤)

مساء الخير أُستاذ أحمد، جزيل الشكر على هذه المدونة الجميلة والمفيدة، سؤالي: كيف يتعامل الإنسان مع كثرة الأهداف في حياته؟ حينما يحاول التخطيط للفترة القادمة، يجد أهدافاً كثيرة على جميع المستويات إيماني، تخصصي، معرفي، اجتماعي ومالي وغيرها! وكلما حاول عمل فلترة، يجد هذه الأهداف والأمنيات ملحة! فيزداد حيرة؛ يخاف

كيف نتعامل مع كثرة الأهداف في حياتنا؟ (ملفّات القرّاء ٤)
للأعضاء عام

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟

هل يكون التعبير المفرط عن المشاعر واليقين بسوء النفسية (خصوصًا لدى اليافعين) مفيد، بنفس القدر الذي يجب فيه أن يحاولوا أن يتجاهلوه بالانسجام مع مسؤوليات حياتهم اليومية؟ لا نجد في عالم الرياضات التنافسية أن المدربين حريصين على استكشاف مشاعر متدربيهم بنفس القدر على حِرصهم لإنجاز جلسة التدريب التالية،

لا يسأل المدربين لاعبيهم: ما الذي تشعرون به؟
للأعضاء عام

فيما يخص تعليق الشهادات على الجِدار (رسالة قارئة)

عن المقالة السابقة بعنوان في تعليق الشهادات على الجِدار. وصلتني رسالة لطيفة، أعتقد إنها تستحق النشر. هنا رد قارئة كريمة اسمها السيدة/ شيخة علي الخروصية: فيما يخص أهمية الشهادات المهنية سأحكي لكم عدة أحداث أو مواقف مررت بها لعلها تضيف شيئاً لكم. أحدثها أننا في قسمنا ممثلين المؤسسة بأكملها