الشهر: يونيو 2017

  • مقالة ضيف عن الصحة: السم الخفي

    هذه المقالة بقلم ضيفين، إخواني: محمد هشام حافظ ومحمد عمار شطا.


    – ١ –

    ثلاث مواضيع من المستحيل أن يتفق شخصان عليها، الدين، السياسة والتغذيه.

    ولعل العلم الذي يختص بالتغذيه والقناعات التي تطالها يوماً بعد يوم لا يمكن حصرها أو إدعاء أحدهم أنه ملم بها. ولكنني سأتكلم بالتحديد اليوم عن «السم الخفي».

    شخصياً، تأثرت صحتي بشكل سلبي بسبب السكر.

    كانت لي صولات وجولات في حياتي مع السكر، ولعل الحظ لعب دوراً كبير في حياتي عندما إلتقيت ببعض الأصدقاء الذين وعّوني على أمره وأضراره التي لربما لن أستشعرها في حياتي إن استمريت في التعامل معه بشكل طبيعي مثل الأغلبية الغالبة من الناس.

    كانت البداية منذ بدأت مسيرتي في سباقات «الترايثلون»، حيث تتطلب المشاركة فيها مستواً استثنائي من اللياقة البدنية، وبالطبع حرصاً أكبر بكثير فيما يتعلق بالتغذية عن الشخص غير المهتم بالمشاركة في مثل هذه السباقات.

    ومنذ ذلك الوقت، شغِل جزءاً كبير من تفكيري نوعية الغذاء الذي يتوجب علي أن أتناوله مع الكمية المناسبة والأوقات، كانت المشكلة في البداية وزني الزائد وشهيتي، والتي لم أستطع أن أتحكم بهما. جربت أنواع مختلفة من الحميات الغذائية، ومع كل تجربة كنت أتعلم شيء جديد.

    مثلاً كانت تجربة الصيام عن الأكل لمدة ١٦ ساعة يومياً أفادتني في نزول وزني.

    الإمتناع عن أكل المخبوزات والنشويات (الكربوهيدرات) بشكل عام أيضاً ساعد في نزول الوزن. ولكن كنت أواجه مشكلة أخرى أكبر من النشويات ، لم أكن أستطيع التحكم في شهيتي وكانت بإستمرار شهيتي مفتوحة.

    لحسن الحظ تعرفت على أخي العزيز محمد عمار شطا (والذي اعتبره أحد أكثر الباحثين في موضوع التغذية في محيطنا) وبدأنا في التحدث عن الرياضة والعلاقة المباشرة للأكل الصحي باللياقة، وبدأت رحلة العلم والتجربة من هنا. أقترح محمد علي التوقف عن الاعتماد على «الكاربوهيدرات» والتركيز أكثر على الدهون و البروتين (وبالأخص على الدهون) في جميع وجباتي، عكس برنامجي الغذائي تماماً. وهذا ما حصل … اعتمد برنامجي الغذائي طيلة الفترة اللاحقة بالتركيز على البروتين والدهون بشكل أكبر، لأتفاجئ بعدة نتائج إيجابية غير متوقعة؛ إشتركت في سباق ترايثلون وكانت النتيجه أفضل من نتائجي السابقة، وربما أعوز الفضل  – بعد الله – لبرنامج التغذية (الأصح).

    – ٢ –

    في مطلع العام بدأت قراءة كتاب Why we get Fat by Gary Tuebas وأيضاً كتابه الآخر The Case Against Sugar (والذي أنصح بقراءتهما).

    «قاري» كاتب مؤرخ يتحدث عن الصحة، وتتمثل أحد أهم قضاياه إثبات أن السمنة ترتبط ارتباطاً مباشراً بتناولنا للكاربويهدرات/السكريات فقط … وليس شيئاً آخر، وأهم ما يلخص هذه القناعة هي التلخيص الذي يقول: «أن الكاربوهيدرات هي السبب الرئيسي لتحفيز إفراز الأنسولين مما يؤدي الي تخزين الدهون، خاصة للشخص العادي الغير ممارس لأي رياضة تتطلب مجهود عضلي».

    قررت بعد قراءة كتاب جاري التوقف تماماً عن أكل الأغذية المجهزة Processed Food وبالتحديد الأغذية الموجود فيها سكر الفركتوز، و هو السكر المستخرج من الفواكه والذرة.

    صدمت من النتيجة! تمكنت أخيراً من السيطرة على شهيتي. 

    لم يكن لدي الرغبه في تناول أي شيء فيه سكر، ووزني أصبح صامد لفترة أطول. المفاجأة كانت بعد عمل إختبار نسبة الدهون في الجسم، كان الرقم تقريباً ١٧.٥ ٪ مقارنة بالعام الماضي ١٩،٥ ٪ وكانت نتائج الإختبار الأخير بعد فقط شهر من التوقف عن الفركتوز.

    الكثير من أحبائي يعانون من الوزن الزائد أو من مشاكل صحيه لها علاقه بالوزن والكثير أيضاً يعاني من إرتفاع السكر في الدم. في رأي السبب الرئيسي هو عدم معرفة مدى تأثير بعض المأكولات على صحتنا و أيضاً أكل السكر بكميات كبيره من غير معرفتنا بوجودها في الأكل.

    والأمر الأكثر حساسية هو: أن الخلايا السرطانية تتغذى على السكر!

    أنصح كل شخص يعاني من الوزن الزائد أو من شعوره بارتفاع شهيته للأكل (وبالأخص تجاه السكريات) أن يقرأ عن مدى تأثير السكر على صحتنا، والبحث عن المأكولات الموجود فيها سكر بكميات كبيرة وتجنبها، مع الحرص على قراءة ملصقات التبيين الموسومة على المواد الغذائية، والأهم استشارة ذوي الخبرة باستمرار.

    – ٣ –

    تعليق محمد عمار شطا:

    كانت بدايتي في الاهتمام بمجال الصحة عندما كنت ابلغ ٢١ سنة من العمر، في عام ٢٠٠٥م كنت ممارس لرياضة رفع الاثقال بانتظام.

    لاحظت بعد فترة ان جسمي غير قادر على التخلص من  الشحوم المتراكمة في منطقة البطن. فذهبت الى مدرب الرياضة. فنصحني بالتوقف عن الخبز والرز، و أن ابدأ بتناول التونة و البرتقال (و عصير برتقال) و البيض على الفطور، بالإضافة الى الجري على جهاز السير ٤٥ دقيقة ٤ ايام في الاسبوع، لمدة شهرين، و أني بذلك سوف اصل الى النتيجة المرغوبة.

    ودون مفاجئات انتهت الشهرين مع التزامي بما قاله المدرب، ولم الاحظ أي فرق.

    ذهبت الى الكابتن معتز، اخبرته بالنتيجة، فقال لي بشكل مختصر: «دي وراثة!».

    صُدمت، صدقت. لكن لم افقد الأمل، و استمريت على شرب عصائر الفواكه الطبيعية بدل المشروبات الغازية، على امل انها مفيدة لصحتي كما كنت أعتقد. لم الاحظ حينها اني كنت امرض باستمرار (كانت تأتيني إنفلونزا أو زكام كل شهر أو شهرين)/

    ٢٠١٠م كنت من المبتعثين للدراسة في أمريكا. و ما زلت مواظباً على تمارين رفع الاثقال. ولكن بدأت ايضا في لعب كرة القدم مرتين في الاسبوع. و ما زلت معتقداً أن العصيرات الطازجة مصدر صحي وطبيعي للجسم، وأصبحت أتناول الفواكه المجففة كوجبة خفيفة بين التمارين و أثناء المحاضرات. لأيماني أن الأكل إن كان طبيعياً فهو انه صحّي بالضرورة.

    وخلال هذه السنتين، وزني نزل، نعم، و لكن يعود ذلك للحركة المستمرة والمجهود العضلي أثناء تمارين رفع الاثقال وتمارين كرة القدم.

    كنت كل صباح افطر شوفان بحليب اللوز والبروتين، وأشرب عصير الخضار لتعزيز مناعتي. لكن، كانت تزورني الانفلونزا كل شهرين، ومع المراقبة كنت أتسائل! ما الخطأ الذي افعله؟! 

     ٢٠١٣م بعد مجهود وبحث عميق في مجال الصحة، بدأت افهم؛ أنه السكر!

    العدو الخفي الذي كان يتسرب إلى كل وجبة كنت أتناولها. اتضحت الصورة عندما قرأت عن دراسة تمت عام ١٩٧٣م ، تضمنت التجربة تناول ١٠٠ جرام من السكر، و استنتاج أن خلايا الدم البيضاء (المسؤولة عن مناعة الجسم) تقل فعّاليتها في قتل الجراثيم بنسبة ٤٠٪ ، لمدة ٥ ساعات حتى تعود فعّاليتها الى المستوى الطبيعي. نعم! صدمة! (وزيد الشعر بيت)، إذا كان هناك نقص في نوع و كمية الفيتامينات والمعادن في نظامنا الغذائي مع تناول السكر، يبدأ الجسم بأخذ العناصر الغذائية من العظام والجلد لتفكيك السكر. و ذلك يؤدي الى الشيخوخة، سوء تغذية و عدّة أمراض أخرى، مع السكر تأتي مصائب اكبر.

    السكر يؤثر على خلايا الدم البيضاء من خلال التنافس على المساحة في تلك الخلايا مع فيتامين سي. خلايا الدم البيضاء تحتاج إلى فيتامين سي لمحاربة البكتيريا والفيروسات. السكر والفيتامين سي متشابهان في التركيب الكيميائي. عند تناول السكر، فإنه يتنافس مباشرة للحصول على المساحة في الخلايا المناعية الخاصة بك مع فيتامين سي، وعند تواجد السكر باستمرار، فيتامين سي ليس لديه فرصة لدخول تلك الخلايا!

    في كل مرة نتناول فيها السكر، يحدث في جدران الشرايين تمزقات صغيرة و بسيطة يمكن الجسم من معالجتها ولكن، يحتاج لمعالجتها الى فيتامين سي، وعند عدم توفر فيتامين سي بكميات كافية، يقوم الجسم بمعالجة جدران الشرايين بالكوليسترول كحل مؤقت، الى أن يتم دخول فيتامين سي إلى الخلايا في جدران الشرايين لمعالجة التمزقات. لكن بالاستمرار في تناول السكر، يصبح الحل المؤقت هو الحل الوحيد، فيبدأ تراكم الكوليسترول الى ان ينتج تصلّب الشرايين أو انسداد في الشرايين (يعني إن تناولت برتقالة أو شربت عصير برتقال، لن يكون هناك فرق)

    بوجود السكر، لا مجال للفيتامين سي من الدخول الى الخلايا لمعالجة المشكلة!

     نجد بشكل ملحوظ أن اغلب من حولنا يعاني من الوزن الزائد.  

    و السبب في ذلك؟ نعم، السكر، فقط ودون اختصارات أو مقدمات.

    عندما نتناول السكر، يرتفع مستوى السكر في الدم بشكل كبير، فيقوم الجسم بافراز كمية كبيرة من الانسولين لتخليص الدم من السكر وحينها تقوم الخلايا بامتصاص السكر أو تخزينه على شكل دهون. فينخفض مستوى السكر في الدم تحت المعدل الطبيعي، و الجسم يجب ان يتفادى إنخفاض مستوى السكر في الدم تحت مستوى معيّن، فيقوم الدماغ بارسال اشارة الى الجسم لافراز هرمون الجوع، حتى تفهم أنت أنه حان وقت الأكل. و يستمر الجسم على هذه الحالة فتكون النتيجة هي الافراط في الطعام، و تخزين الفائض على شكل دهون متراكمة في الجسم. كما أن الأنسولين يعطي إشارة للجسم بالتوقف عن حرق مخزون الدهون في الجسم و البدأ بتخزين الطاقة (الأكل الذي دخل جسمك) على شكل دهون.

  • مشكلة العائلة والأصدقاء المقربين!

    مقدمة: ربما أجد أن هذه المقالة أحد المقالات الحساسة التي كتبتها، لكنها بالتأكيد لا تقصد شخصاً أو موقفاً بعينه، وهي بالتأكيد قراءة للأحداث وليست لتصفية الحسابات.


    يتطرق بريسفيلد في أحد كتبه عن أكبر مشكلة شخصية تواجه الواحد فينا مع عائلته أو أصدقائه المقربين، وهي «أنهم يُذكروننا بأنفسنا، بل ويسعون دوماً لتحويلنا وإرجاعنا إلى الشخصيات التي إعتادوها فينا». وهذا الرأي يفسر كثيراً ردود الفعل السلبية عندما يخبرهم أحدنا أنه على حمية غذائية، أو في حالة إقلاع عن التدخين أو أي أمر آخر لم يعتده المقربون.

    عندما يكبُر أحدنا ويتغير (أو يتطور) إلى حال آخر، فلا يجب أن نتوقع من المقربين تجاوباً كبير.

    أضرب هنا على سبيل المثال (دون سلبية) أنني بعد أن كتبت كتاب «ثورة الفن» وبيع منه ما يقارب ٢٠،٠٠٠ نسخة وبعد أن نشرت أكثر من ٤٠٠ مقالة في مختلف الصحف وعلى مدونتي، أستطيع أن أجزم أن ليس هناك شخص واحد فقط من أقرب المقربين لدي قد قرأ ما يتجاوز ٥٪ مما كتبت. ليس لأنهم بالطبع يملكون شيئاً سلبي اتجاهي؛ لكن ببساطة لأنهم يعتقدون أن من كتب كل ذلك هو بالضرورة نفس الشخص القديم الذي اعتادوا عليه. عكس الكثير من الغرباء (الذين أصبحوا أصدقائي) والذين (ربما) يحرصون على الاطلاع على ما كتبه هذا الإنسان.

    أو ربما لأن معظم المقربين يعتقدون أنهم يعرفون ما وصل إليه أحد أقاربهم الصِغار أو كيف يفكر ولماذا.

    الإدراك بأن الآخرين يتغيرون باستمرار في جميع أصعدة الحياة لا يصل إليه معظمنا. ولا يرغب البعض بالاقتناع أن فلاناً من الناس قد كبُر أو تطور أو عمل على نفسه.

    مثلما واجه صديقي العزيز عمر توبيخاً وتعاملاً قاسي من أحد كِبار عائلته، لأن الأخير مازال يعتقد (أو كما اعترف) أن عُمر لا يزال ذلك الإبن الصغير ليقول له «من أنت حتى تُفتي أو تقول رأيك؟» أو «ماذا درست لكي تدلي لنا بدلوك؟» مع العِلم أن عمر تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره!

    أدركت بعد وقت طويل أن رأي الأهل والمقربين ليس مؤشراً للنجاح، وأنه في حالات كثيرة سيتعارض مع المصالح الخاصة بنا، ببساطة لأنها محسوبة على الشخصية القديمة، وليس للتي وصلنا إليها الآن.

    يستوقفني كثيراً تفاعل الغرباء – إن صح التعبير – الإيجابي في حياتنا وتشجيع بعضهم لما يرونه من تطور، وربما أعوز السبب ببساطة أنهم يروا فينا النتيجة النهائية، وليس ما تعودوا عليه.

    وأخيراً … أجد أن محاولة الهروب من الصورة القديمة مع عدم محاولة إثباتها للمقربين هي الطريق الأسهل والخالي من وجع الرأس.

  • العزلة مرة أخرى

    من أصعب الأمور في حياتي: تقدير أن ما أقوم به عندما أكون وحيداً هو الأهم.

    لا أعلم شخصاً أكثر من نفسي في هذه الحياة يصطدم مع حاجته وحربه مع العزلة، فكلما حاربها المجتمع وحاربتها، كلما ازدادت حاجتي لها.

    العزلة … ليست الانقطاع، وليست الوحدة. ببساطة هي تلك اللحظات التي يبحث فيها الإنسان عن نفسه، وعن معنى الحياة بالنسبة له.

    يتسأل فيها الإنسان، يعكس أفكاره .. يراقب نفسه، ويعلم من خلالها ماذا يريد، ومن سيكون.

    لا نؤمن بالعزلة، فهيا مرض بالنسبة للكثيرين، وهي الحل لأمراض أكثر – ربما -.

    لا أعلم لما أتداول فكرة العزلة منذ مدة! … أو تحديداً … فكرة البحث أو التركيز أكثر عن ما أريد القيام به عندما أكون مع نفسي.

    «أفضل يوم، هو الذي أتعذب فيه صباحاً وأستمتع به ليلاً» يقول باولو كويلو، الذي اختار أن يتعذب عندما يكون بمفرده صباح كل يوم عندما يكتب. لينسى كل شيء برفقة الآخرين في الليل.

    العزلة مهما طالت فهي مؤقتا، ومهما أعطيناها تقديراً أكبر، فستكون (ربما) حياتنا مع الآخرين أفضل.

  • هل تود فعلاً أن تعيش للأبد؟

    يسأل العالِم «نيل ديجراس تايسون» مذيع السي إن إن المخضرم «لاري كينج»: «لو كان لديك الخيار؛ هل تود أن تعيش للأبد؟ … ويجيبه الأخير: نعم!

    وُلِد هذا السؤال بعد سؤال قبله سأله كينج: «ماذا يحصل للإنسان بعد موته؟» … وأجاب تايسون إجابة علمية مطولة، أغلقها بالرد عليه بسؤال: هل تود أن تعيش للأبد!؟ …

    يذكرنا تايسون أن الإنسان لا يجب أن يختار هذه الإجابة التي أجابها لاري كينج، لأن الإنسانية ببساطة لن تتطور، ولن تُنتج ولن تتقدم في أي شأن من شؤون حياتها.

    والسبب بسيط خلف هذا الاعتقاد … لأنه وطالما هُناك «غداً» فلا داعي أن أنجز اليوم.

  • لماذا الجهد لا يساوي النجاح؟

    مشكلة الجهد المبذول كل يوم من قبل أي شخص يعمل على أي شيء لا يضمن أبداً النجاح لصاحبه، خصوصاً إن لم يقترن بأي مستوى فكري عالي. فتجد كما يعرف الجميع أشخاصاً يبذلون جهداً مضاعفاً تحت أشعة الشمس وبين الآلات مع مردود مادي ضعيف، وربما نجاحات قد لا تستحق الإشادة لدى الأغلبية الأُخرى.

    لا أود التركيز على المفهوم في النقطة السابقة، لكن أود أن أترك المجال للقارئ الكريم بتخيل أن أياً من المهام اليومية التي يعمل بها سوآءاً كان موظفاً أو رجل أعمال أو فنان أو في غيرها من المهام؛ قد يصاب بالحسرة على نسخته التي كانت تعمل نفس العمل منذ خمسين عام. فموظف الحجوزات كان يعمل على الكثير من الأوراق والاتصالات والتواقيع (و«الأموال النقدية» التي تُصيبني بالمغص)، ومثله موظف البنك والبلدية وبائع السيارات، والتي اختُزلت معظم مهامهم دون الحاجة الماسة لاستخدام أوراق بوجود الكمبيوتر ونُظُم معلومات ساهمت دون مبالغة بتسريع عجلة العمل أكثر من عشرة أضعاف.

    في الحقيقة لو تخيل القارئ الكريم هذا الأمر أو لم يتخيله فهذا لن يغير من واقع الأمر شيء؛ لأن  العالم كله أصبح عندك … عند كبسة زر على الكمبيوتر (أو الهاتف الذكي).

    وعن الإنجاز … تحدثت من قبل عن كتاب Deep Work للكاتب Cal Newport والذي تكلم فيه عن مفهوم بسيط وهو: أن الإنسان في هذا العصر أصبح يُصاب بوهم الإنجاز عندما يصرف معظم وقته في الإجابة على إيميلات العمل وإجراء بعض الاتصالات الهاتفية، في حين أن العمل الحقيقي والذي يحتاج للكثير من الجهد المبذول بتركيز أعلى لا يستوعب أهميته كثيراً من الناس.

    فإن كان جزء من معادلة الإنجاز اليومي قد حُل بوجود التكنولوجيا؛ فهناك جزء آخر أصبح أكثر تعقيداً وهو أن صعوبة السيطرة على الملهيات المحيطة بنا كل دقيقة قد أعادنتا لنقص إنتاجي أو ما يعادل ما ينتجه الفرد قبل خمسين عام، فتجد إن كان الموظف المنتج ينجز خمسة معاملات مثلاً قبل خمسين سنة خلال يوم عمله (٨ ساعات)، فستجد – ربما – نفس الموظف ينجز ستة معاملات فقط في اليوم (خلال أقل من ساعتين) ويكتفي بها، ويعيش بقية اليوم تحت وهم الإنجاز وتضييع الوقت بالدردشة مع زملائه إضافةً إلى التلفونات والإيميلات … وبين قنوات التواصل الاجتماعي التي تسرق ثلث اليوم وربما أكثر مع الأمور الترفيهية الأخرى.

    مشكلة الجهد المبذول خلال اليوم أنه أصبح بمعظم مستوياته بديهياً بالنسبة للشركة التي يعمل بها الموظف، أو بالنسبة لإنسان تعود على الكسل من خلال تعايشه مع محيطه. فها أنا مثلاً أصارع نفسي كل يوم لأكتب عدد الكلمات التي يجب أن أكتبها (١،٠٠٠ – ٢،٠٠٠ كلمة في اليوم الجيد) تكون موزعة ما بين تدقيقات لغوية، كتابات كتب وكتابة مقالات، في الوقت الذي ينبهر فيه أي شخص من حولي (حتى بعض أصدقائي الكُتاب) أن هذا الإنجاز يعتبر ذو وتيرة عالية نسبياً. لكن الحقيقة المحزنة تقول عكس ذلك!

    فعدد ١،٠٠٠ كلمة يومياً يعتبر رقماً عادي لكاتب متمرس/متفرغ لدى الغرب، بل أن كُتاباً مثل تشارلز ديكينز ومارك وتوين وستيفن كينج وإسحاق آسيموڤ يكتبون على الأقل ٢،٠٠٠ كلمة يومياً (والأخير كان يكتب ٥،٠٠٠ كلمة معظم أيام حياته) دون أن ننسى أن هؤلاء الأشخاص كانوا يواجهون مهمة كتابية أصعب بكتاباتهم على آلة كاتبة (باستثناء كينج) وليس على جهاز كمبيوتر يعالج أخطائهم ويرتب كلامهم على الصفحة. وعندما نقيس هذا الأمر على المهام الأخرى سنجد أن الرسامين ورجال الأعمال والمخترعين الذين لم يعاصروا التكنلوجيا يملكون وتيرة أعلى من الإنتاج في المقارنة مع الحاليين … وأعوز شخصياً السبب الذي قلته، بأن المهام أصبحت أسهل، لكن الملهيات أصبحت أكثر.

    ١،٠٠٠ كلمة مُنجزة يومياً والتي قد تبهر أي كاتب في مجتمعنا، ليست معياراً دقيق في الحقيقة، لأن المجتمع لم يتربى أصلاً على التعايش اليومي مع الفنون والمهام التي تتطلب حجماً أعلى من الالتزام وصرف الوقت عليها كالكتابة، فتجد أن السواد الأعظم منهم ينسجم مع الراحة أكثر من انسجامهم مع العمل المستمر.

    الجهد لا يساوي النجاح …

    أجريت إتفاقاً ضمنياً مع أهلي منذ سنتين على موضوع التسوق خلال شهر رمضان محاولاً أن أضمن من خلاله المزيد من الوقت لأنجز أعمالاً مهمة، إضافةً لامتلاكي حساسية عالية من النزول إلى السوق خصوصاً في هذا الشهر الكريم، وقد نص الاتفاق باختصار أنني على استعداد أن أطلب – بميزانية مفتوحة – أي شيء يريدونه «أون لاين» ليصلنا عبر البريد مقابل عدم نزولي معهم (أو عدم نزولهم) إلى السوق أبداً، وقد نجح الاتفاق بالفعل، ففي العام الماضي كنا قد طلبنا أكثر من ٣٠ قطعة ملابس للعائلة كلها من أحد مواقع التجزئة بمبلغ جيد في الحقيقة إضافةً إلى تكاليف الشحن التي لا أستخسرها أبداً مقابل «تعب القلب» الذي يتطلبه النزول إلى السوق. هذا الاتفاق أبعدني خطوات عن سلوك العقل الجمعي من المجتمع الذي يفضل الذهاب إلى الأسواق وقت الازدحام.

    المشكلة الأخرى التي ظهرت بشكل أكبر هي … استمرار الملهيات بشكل أوسع، فلسبب ما أصبح الكثير من الأصدقاء يتعايشون مع رمضان بأنه شهر الخروج أثناء فترة المساء، وتمتلأ الفعاليات خلال النهار على قنوات التواصل الاجتماعي، لينقص معدل التركيز (ولو أن هذا الأمر هو مسؤوليتي الشخصية أولاً وأخيراً للسيطرة على التركيز والابتعاد عن الملهيات). ليقودني هذا الأمر إلى تساؤل آخر …

    ماذا تفعل عندما تكون وحدك؟

    «إن ما تفعلونه بمفردكم … هو ما يصنعكم» … قرأت هذه الجملة العميقة في سناب الآنسة الكريمة زينب الحميد، لتذكرني كثيراً بمفهوم كتاب «العمل العميق»، فالسر حقيقةً يختفي خلف الأوقات التي يكون فيها الإنسان بمفرده، فهل سيحرص على صرف ذلك الوقت على عمل حقيقي ذو تأثير عالي يستحق التركيز؟ … أم سينشغل في الملهيات مع الأعمال التي تشعر الواحد فينا بالإنجاز؟

    كنت أقول دوماً: أن من عاش قبل خمسين سنة وأكثر كان يملك المساحة والقدرة الأكبر على الإنجاز لأنه ببساطة لا يملك نفس الملهيات التي نملكها اليوم، ليضرب لي أحد الأصدقاء مازحاً مثال «آينشتاين» الذي اشتهر عنه أنه كان زير نساء طول حياته، فالنساء – على حد قول صديقي – هم الأكثر إلهاءاً لرجل مهم مثل آينشتاين، لكن سيطرته اليومية الكبيرة على عمله وملهياته هي التي صنعت منه ما صنعت.

    أختم ملاحظتي محاولاً الإجابة على سؤال المقالة، بأن الإنجاز (أو النجاح) لم يعد كما نعتقد أسهل من أي وقت مضى، فالتكنلوجيا خلقت سهولة العمل، وخلقت معها الكثير من الإلهاء، الذي يجب أن يحارب ضدها من يريد أن ينجز شيئاً حقيقي خلال يومه.

    فالمشاريع لا تُخلق لوحدها دون عقل الإنسان وتركيزه المستمر (مستخدماً التكلنولوجيا) وهذه المقالة لم تكن ستكتب، لولا تركيز مستمر عليها مع الابتعاد عن الملهيات وقت كتاباتها.

    الفرق اليوم في رأيي أصبح يتلخص بأن الإنسان يجب أن يركز على الأعمال الأكثر أهمية في حياته كما كان يركز عليها من هم مثلنا قبل خمسين سنة، بوجود التكنلوجيا أو بعدمها.

    والنجاح … لا يأتي من خلال تنفيذ الأعمال المطلوبة منّا كل يوم كإرسال الإيميلات ومتابعة الاتصالات الهاتفية. بل بأخذ المخاطرة، والتعلم المستر، والتركيز على الإبداع والابتكار فيها، وإعطاء الآخرين أعمالاً متعوب عليها عقلياً قبل أن تكون جسدياً .. لنقول لهم تفضلوا … هذا عمل حقيقي، وليس وهم إنجاز.

    المهام اليومية ليست عمل … التركيز المستمر على الأمور المهمة عمل.

زر الذهاب إلى الأعلى