الشهر: نوفمبر 2018

  • إيمانويل كانط والحياة الكاملة

    إيمانويل كانط كان واحدًا من أهم المفكرين والمؤثرين في التاريخ الحديث. فعل الكثير لتوجيه وتغيير العالم من شقته الصغيرة في «بروسيا».. أكثر مما فعله معظم الملوك والجيوش من قبل.

    لأكثر من أربعين عامًا، كان يستيقظ كل صباح الساعة الخامسة يكتب لمدة ثلاث ساعات بالضبط. ثم يحاضر في نفس الجامعة لمدة أربع ساعات. يتابع يومه مع تناول الغداء في المطعم نفسه كل يوم. وبعد ذلك في فترة ما بعد الظهر، كان يمضي وقته في نزهة طويلة في نفس الحديقة، على نفس الطريق، ليعود إلى المنزل في نفس الوقت كل يوم.

    ربما يُخيل للبعض أن هذا النمط من الحياة مُملًا أكثر من كونه مثيرًا وشديد الإنتاجية والانضباط، ولكن في المقابل [tweet_dis]عندما نستوعب أن هذا الروتين قد ساهم بتغيير البشرية ليحول صاحبه لأهم فيلسوف قد وُجِد على هذه الأرض في المبادئ الأخلاقية، قد يتغير حُكمنا قليلًا[/tweet_dis]، مع العلم أيضًا أنه لم يترك في حياته أبدًا مدينته «كونيكسبيرج» في بروسيا، ولم يهتم بفكرة قُرب البحر بضعة كيلومترات من منزله ليستمتع به. كان كل التركيز على أفكاره وتوثيقها والتأمل بها، حتى أثرت ما أثّرت به.

    [tweet_dis]«إذا كنت تعيش في مجتمع ديمقراطي يحمي الحقوق الفردية، فيجب أن تشكر كانط على هذا الأمر» يعلق مارك مانسون[/tweet_dis]، «لقد كان أول شخص يتصور على الإطلاق وجود هيئة حاكمة عالمية يمكن أن تضمن السلام عبر معظم أنحاء العالم [وربما تعتبر نسبيًا الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان نِتاجًا لهذا الفِكر]. وقد وصف الفضاء والوقت بطريقة استلهم منها آينشتاين نظرية النسبية.

    توصل إلى فكرة أن الحيوانات يمكن أن يكون لها حقوق، وقد اخترع للبشر فلسفة الجماليات والجمال (Aesthetics and Beauty)، وحسم نقاشات فلسفية كان عمرها أكثر من مئتي عام تجاوز محتواها مئات الصفحات. أعاد اختراع الفلسفة الأخلاقية من القمة إلى القاع، وقد أطاح بالأفكار التي كانت أساس الحضارة الغربية منذ أرسطو.

    هذه المقدمة هي مدخل بسيط لشخص تناول مفهوم «الغاية والوسيلة» لمستوًا جديد قد يغير حياة من يقرأه للأبد.

    فلسفة كانط الأخلاقية فريدة ومتناقضة، فهو يعتقد أن الشيء الجيد، يجب أن يكون جيدًا في كل العالم (تحت أي حضارة ودين وفي كل مكان)، أي أنه لا يمكن أن يكون «صحيحًا» في وقتٍ أو مكانٍ ما، وغير صحيح في آخر.

    ونأخذ الكذب على سبيل المثال.. فإن كان الكذب خطأ؛ فهو خطأ طيلة الوقت، وهو خطأ جماعي ومتراكم عندما يفعل الجميع ذلك، هذا باختصار.

    إذًا.. فإن أي سلوك إن لم يكن بشكلٍ دائم صحيحًا أو خطأ، فلا يمكن اعتباره مبدأ أخلاقي صحيح.

    وهنا نأتي لقلب ما أريد لفت النظر إليه في أحد أهم اقتباساته:

    «تصرف دومًا مستخدمًا حِس الإنسانية، سواء مع نفسك أو في تعاملك مع شخصٍ آخر كطرف في المعادلة، وليس مجرد وسيلة.»

    بمعنى.. أنك عندما تريد مصلحة من شخصٍ ما، تواصل معه وأطلب المصلحة مباشرًة دون تحذلق أو مقدمات أو دعوات للغداء.. لا تجعله «وسيلة» لـ «غاية».

    يرى كانط أن حياتنا تسير بشكل كبير في فُلك «الوسيلة» و«الغاية»، ويجد أن اتخاذ الإنسان للآخر كوسيلة لغايات خاصة تصرُف «لا أخلاقي».

    أختصِر هذه الفكرة بالوصف التالي وهو: أهمية وجود الوعي الكامل تجاه أنفسنا واتجاه الآخرين في كل تصرف.

    مهلًا، سأحاول التبسيط..

    يرى كانط أن الشيء الوحيد الذي يميزنا عن بقية المخلوقات في هذا الكون هو قدرتنا على معالجة المعلومات والتصرف بوعي. وهذا الأمر بالنسبة له، مميز.. بل ومميز جدًا!

    يجد أننا نحن (البشر) الوحيدين الذين يملكون قدرة التنظيم الذاتي المعتمد على الذكاء والعقل، لذلك، يجب أن نتعامل مع هذا الأمر بجدية قصوة، وبالتالي فإن العقلانية وحماية الخيار الواعي يجب أن يكونا الأساس لكل منطقنا الأخلاقي.

    بمعنى.. أنك يجب أن تدرك أنك إنسان ذو عقل وذكي وتستطيع اتخاذ القرارات من أجل حياة أفضل، وبعد أن تدرك هذا الأمر.. حاول أن تحميه وتحافظ عليه.

    نعود لموضوع الغاية والوسيلة..

    [tweet_dis]يقول كانط: «يجب ألا يتم التعامل مع كل شخص على أنه وسيلة لطرف آخر، بل يجب معاملته أيضًا كغاية بحد ذاتها.»[/tweet_dis]

    الترجمة العملية.. عندما تقرر أن تخرج مع صديق، فإن الغاية يجب أن تكون الخروج معه والاستمتاع برفقته. لكن إن قررت أن تخرج معه من أجل غاية (مصلحة) وإذا احتجنا منه لمساعدة فيجب إعلامه فورًا أن تواصلك معه لغاية من أجل هدف أكبر.

    الوعي وتنويه الطرف الآخر مطلب أخلاقي هنا حسب مدرسة كانط.

    وربما يصح القول كتعليق.. أن مجاملة الآخرين مثلًا واعتبارهم جسر عبور (أو وسيلة) من أجل غايات أخرى، يعتبر شكلًا من أشكال التصرفات اللاأخلاقية تجاههم واتجاه أنفسنا. فإن كان هناك رغبة جدية بعدم المجاملة.. ببساطة لا يجب أن نجامل!

    ماذا يعني هذا الأمر؟.. يعني أنك عندما تفعل شيء بكامل قواك العقلية برضاك ورضى الطرف الآخر بشكلٍ كامل.. فإن هذا الفِعل أخلاقي (آخذين في عين الاعتبار فكرة القبول العالمي لهذا الفِعل).

    لكن ماذا عن التعامل مع أنفسنا دون وجود أطراف خارجية؟.. ماذا عن المبدأ الأخلاقي تجاه أنفسنا؟

    يعتقد كانط أن علينا جميعًا واجبٌ أخلاقي، وهو بذل قصارى جهدنا في جميع الأوقات، لكنه لم يشير في حياته أن بذل قُصارى الجهد يجب أن ينبُع بسبب احترام الذات أو من أجل الحصول على الاحترام من قِبل الآخرين أو تحقق المنفعة الشخصية أو المساهمة في المجتمع أو أي شيء آخر. بل ذهب أبعد من ذلك بكثير!.. وجادل بأنك كإنسان أخلاقي يجب أن تبذل قصارى جهدك في تأديتك لعملٍ ما أو محاولتك لإنجاز شيءٍ ما، لأن أي شيء أقل من هذا الجُهد هو تعامل واضح مع أنفسنا كـ«وسيلة» وليس «غاية».

    وأقصد.. [tweet_dis]أنك عندما تكون على يقين عالٍ بقدرتك على فِعل شيء ما، ولا تلتزم بالإحسان والاتقان فيه، فإنك قد تصرفت تصرفًا لا أخلاقي تجاه نفسك.[/tweet_dis]

    تدعو أيضًا مدرسة كانط إلى فكرة مفادها: أن كل إنسان لكي يعيش حياة سوية (وربما ناجحة)؛ فإنه يجب عليه أن يحاول طيلة الوقت بأن يقوم بأعماله أو سلوكه أو محاولاته وتقديم خدماته على أكمل وجه، دون اتخاذ النفس والآخرين كوسائل مؤقتة.. وبالتالي فإن تحقق هذا الأمر؛ فسيتحقق معها تطبيقًا مبدأ الأخلاق بشكل أسهل.

    بالبلدي.. إن كان اسمي أحمد وأنا أُحب الكتابة، وأعلم يقينًا أنني أستطيع إنجاز كتابة خمسمئة كلمة كل يوم، وأعلم يقينًا أن الكتابة من أهم الأمور في حياتي، وهي مصدر التأثير والسعادة، ولكنني أصبحت أستيقظ دون الاكتراث لإنجاز هذا العمل.. فإنني بذلك لستُ أخلاقيًا تجاه نفسي. لماذا؟.. لأنني اتخذت عقلي وجسدي كوسيلة لغاية تتعارض مع أهدافي وطموحاتي!.. وهي: الكسل.

    الوضوح والالتزام وبذل مجهود منتظم.. والابتعاد عن اتخاذ الآخرين وأنفسنا كوسائل لا نرضى غاياتها وأهدافها لأنفسنا.. عمل غير أخلاقي.

    كانط.. يشجع على مفهوم الحياة الكاملة، الحياة ذات المعنى التي تحدث عنها «ڤيكتور فرانكل» بعده بمئتي سنة. يشجع باختصار أن تكون غاياتنا (وقبلها أهدافنا) سامية.. وبوضوحها.. ستسُهل الوسائل، وسيرضى الآخرين بأن يساهموا في تحقيق هذا الأمر.

    وبالطبع.. سيقتنع الإنسان مع نفسه أن عمله ومجهوده وسيلة لغاية أسمى.


    * جزء كبير من هذه المقالة مستلهم ومنقول (بتصرّف) من مقالة بعنوان: The One Rule of Life للكاتب مارك مانسون.

  • أعياد الميلاد ليست غبية

    الطبيعة السوية للإنسان تجبره على التغيُر والتطور بنِسب متفاوتة مع الوقت.
    القناعات.. الأفكار.. التصرفات والظروف كلها قابلة للتغيُر، إلا المبادئ. وفي الحقيقة كُنت (وربما لا زلت جزئيًا) أملك تلك القناعة التي تقول إن أعياد الميلاد ليست أمرًا يجب أن يحتفل به الإنسان.. ومنطقي خلفها هو: كيف نحتفل بنُقصان سنة من حياة شخصٍ ما؟.. ولعل هذا المنطق وإن كان شديد السلبية ويُقرّبنا سنة نحو ما نخاف أن نتذكره، إلا أن العديد من النقاشات الجدلية (التي أصبحت لسببٍ ما أستمتع بها مؤخرًا) قد تسلحتُ بها للدفاع، ولم أستسلم بشكلٍ مُطلق لمن يشجعون بشكلٍ جدي للاحتفال بأعياد الميلاد، حتى جاء يوم المحادثة الكريمة مع أخي وصديقي العزيز د. عبد الكريم الجهني، عندما أخذ مني رصيدًا عالي من الاقتناع بقوله: «أن أعياد الميلاد، هي إعطاء تقدير حقيقي لطفل واحد.. طفل واحد فقط يستحق هذا التقدير إنسانيًا في يوم ميلاده.. وليس تقديرًا عامًا مع آخرين» وكأن الرأي خلف هذا التقدير هو: نود اليوم أن نكون ممتنين لوجودك (يا صاحب عيد الميلاد) في هذه الحياة.
    ذلك الطفل الذي يبحث عن الحب والتقدير لوحده.. هو كل الرجال.
    كُنت لسنوات طويلة أشعر بغرابة غريبة عندما يهاتفني شخص ويقول لي «كل سنة وإنت طيب».. ربما لأن القناعة لازالت مترسبة كقناعات عديدة أخرى، وأكتفي مع كل تواصل بالردود البديهية. بل أنني لا أتذكر بدقة متى احتفلت بعيد ميلادي أو احتفل بي شخصٌ ما، أقصد بالاحتفال معناه الحرفي.. غناء وهدايا وبعض الصراخ اللطيف.
    حصل وأن كُنت برفقة زوجتي وابنتي سيرين عام ٢٠١٤م في مدينة «آنتورپ» في بلجيكا يوم ميلادي، لتُفاجئني زوجتي بتعليق سريع ونحن في وسط المدينة في المساء «اليوم ميلادك، كل عام وأنت بخير.. إيش تبغا هدية؟» ليشتغل عقل الرجل الانتهازي فجأة، وأقوم بالتأشير على محل Bose للسماعات والذي كان أمامنا بالضبط لحظتها، وأقول: «من هنا.. أريد سماعات عازلة للصوت» لتشتريها لي مباشرًة خلال دقائق، لها كل الشكر.. (وبالمناسبة لهذه السماعات قصة طريفة أخرى تستحق أن تُكتب في يومٍ ما).
    بالنسبة لبعض الرجال.. تقديرهم يتمثل في الأمور المادية، وبالنسبة للآخرين (وأدّعي أنني منهم) يتمثل بالاكتفاء بوجود من يحبوهم في الجوار في ذلك اليوم بالتحديد، وبقية أيام السنة.
    استيعاب الامتنان والنِعم واحتواءها وتذكرها أكبر هدية يجب أن نستشعرها ربما. فكلها تُذكّرنا أنا الدنيا مهما كانت شاقة.. فستكون سعيدة وبخير بعدها بمن هم حولنا.
    أيام أعياد الميلاد.. تفتح نوافذ للود، حتى وإن كانت تُذكرنا بنقصان عام من حياتنا.
    واليوم لعلني أقول لنفسي.. كل عام وأنا بخير بوجودكم.

  • كيف أصبحت؟

    صباحات الإنسان هي التي تحدد طِباعه.

    – ميلان كونديرا

    لم أجد وصفًا بليغًا كوصف كونديرا لطِباع الإنسان في اختزاله في الصباحات. فكيفما يكون صباحنا سنكون.

    من تحديات الصباح اليومية، هو أن يمُر على ما يُرام.. دون أن نوبخ أحدًا أو أن نحشُر أنفسنا في زوايا ضيقة.

    جربت على فترات طويلة أن أستمتع به، -وإن لم أكن كذلك الآن- فلا أعلم إلا قليلين يستمتعون به وبتفاصيله.، وهم بصِدق أصحاب طِباع جيدة.

    وربما أجد أن الصباح السعيد لا يتشكل دون أن يُصرف الوقت والذِهن فيه مع أمرٍ ما نحبه.

    تخيل كيف ستكون حياتك إن صُرِف كل صباحٍ فيها فيما لا تحبه.. كل يوم.. إلى آخر يوم في الحياة!.. كيف ستكون الطِباع؟ وكيف سينتهي اليوم؟

    كيفما يكون صباح.. ستكون.

  • الأعمال الصعبة

    … على الأغلب ليست صعوبتها في تعقيدها؛ إنما في استمرار الانضباط على التعلم من أجلها، والعمل عليها، مع خفض التوقعات.

    الأعمال الصعبة هي التي تتطلب صبرًا أكثر من الذكاء.

    الصعوبة مهما كانت بالغة، فهي ليست صعبة بالنسبة لشخصٍ ما في مكان ما في هذا العالم.

    الذكاء مهما كان كبيرًا؛ فهو على الأغلب أقل من ذكاء شخص آخر.

    الأعمال الصعبة هي التي تتطلب الكثير من المحاولات، والكثير من الإيمان بالوهم.. حتى تظهر تلك النتيجة.

    وربما من المجدي أن يقنع الإنسان نفسه بأن يصبر على أمرًا ما صعب، عوضًا عن الاعتقاد بنقص الذكاء (والثقة).

  • علاقة البنت مع أبوها

    يُقال إن أهم علاقة في حياة الأنثى حتى موتها، هي علاقتها بوالدها.

    يتشكّل كيانها وتُدار حياتها المستقبلية النفسية وربما الاجتماعية، بناءً على مُحصلة العلاقة بين الابنة وأبوها.. (وجهة نظر).

    تحاول الأنثى انتزاع القبول -ربما- من الآخرين إن لم تُقبل من والدها في طفولتها ومراهقتها، وتظل تبحث عن (إحساس) الأمان، مهما توفر لها من قِبل الآخرين بكميات مُضاعفة دون أن يُغطى هذا الإحساس.. إحساس الأمان الأبوي.

    وأشعر شخصيًا، أن الأنثى إن عاشت حياة سوية ممتلئة من والدها، فمن الصعب جدًا أن تُكسر أو تُجرح من أي شخص لمدة طويلة، بل وأجد أن صعوبة الأمر تتشكل في حياتها بأن البحث عن الحبيب/الزوج/الرفيق سيكون مرهقًا أحيانًا في ظِل وجود والدٍ مُحب ومعطاء قد عاشت معه.. ولسان حالها يقول: مهما كُنت.. فأنت لست كأبي.

    وعندما نتحدث عن الأنثى الخاصة بنا في المجتمع، فإننا إلى حدٍ بعيد سنُضيِع وقتنا في النقاش حول مستقبلها وطموحاتها الكبيرة إن لم يكن والدها إنسانًا سوي ومحب. فدون مبالغة، وحتى وقت طويل كُنت أعطي نفسي الحق بأن أقول، أن مستقبل الأنثى لدينا يعتمد على لطافة الأب.. لا أكثر.

    إن قرر الأب مسبقًا ألا تعمل أو تتعلم أو تتزوج وأن تحصل في ماضيها على فيضان من المشاعر الأبوية، فقد نصطدم بجدار كبير من النقاشات البيزنطية التي قد لا تغير الكثير.

    استوعبت بعد المرور على الكثير من القصص، أن تكوين المجتمع واستقلاله فكريًا وطموحيًا يعتمد إلى حد بعيد -ودون تحذلق- إلى علاقات البنات مع آبائهم. فببساطة، لن تستطيع بسهولة الأم أن تربي شخصيات مستقلة قوية.. إن عاشت سنوات طويلة مع ضغط وعلاقة مهترئة مع أبيها.

    وعي الأنثى بهذه الحالة وإدراك مخرجات العلاقة الأبوية غير الجيدة، سيحل خمسين بالمئة من مصاعبها الحياتية (أيضًا وجهة نظر). فإن عاشت مع والدٍ غير سوي أو محب أو حتى مجرمًا، فلا عيب إن ادعت أو شكت أو بحثت بعدها عن مساعدات نفسية، أو محاولات تعويضية جدية حقيقية مع إنسان يعطيها ذلك الإحساس.

    لدينا الكثير من حالات الآباء غير السويين مع بناتهم.. ولدينا مخزون عاطفي ووعي معرفي وصبر لا بأس بهم لأن نغير حياتنا للأفضل. فإن عاشت الأنثى حياة صعبة مع أبيها، أتمنى أن تراعي طفلتها قبل أن تولد.. بالبحث عن أب خالٍ من العُقد.. قدر المستطاع.

  • الإحساس بالخمول الفكري

    … سببه على الأغلب هو الخمول الجسدي.

    الإرهاق، وقلة النوم، والأكل السيء، ونقص الرياضة، وكثرة الاقتناع بوجود مشاكل في هذه الحياة مع نقص الأحاسيس والعواطف والشغف؛ كلها تقود للخمول، ويقود الخمول للاستسلام (والتنبلة) وعدم الاقتناع بجدوى الذات، مع إحساس «أهبل» في التأنيب ونقص الثقة في النفس، وعدم الإنجاز.. وعدم الاكتراث قليلًا لعدم الإنجاز.

    في مرحلٍة ما في هذه الحياة، سيشعر أحدنا بهذا الخمول الفكري، وسيعيش مؤقتًا حياة ميتة.

    أقترح وقتها أن يستسلم قليلًا.. ليبدأ من جديد بعدها، فيعيبنا نحن البشر أن ما يهدد مزاجنا وانضباطنا الكثير من المؤثرات، بعضها ما تم كتابته بدايًة.

    أقترح أيضًا أن نُفّرق بين الخمول الجسدي والخمول الفكري، فالأخير لن يُحل دون معالجة الخمول الجسدي. وربما نُفاجئ بأن ما نعيشه من خمول فكري لا يتجاوز الإرهاق الجسماني.

    وجدت من ناحية أخرى أن ممارسة الامتنان من أكثر السلوكيات الصحية في سلوك البشر لمعالجة معظم التخبيصات النفسية.

    الامتنان على وجود الصحة والأبناء والعائلة والأصدقاء والأمور البسيطة التي تسعدنا كل يوم.. الامتنان على عدم حُرمانية كوب القهوة والشوكولاته الداكنة، وطبعًا، القدرة على سماع موسيقى لطيفة.

    والأهم.. الامتنان على قدرتنا بالامتنان على قضية نعيش من أجلها.

    الخمول الفكري يُعالَج بسرعة -في رأيي- بمعالجة الجسد وممارسة الامتنان. ومهما كانت الأمور كثيرة التي تؤثر على تفكيرنا، ففي المقابل توجد أمور بسيطة للمعالجة.

    حفِظ الله أجسادكم وأفكاركم.

  • حياة ميتة وحياة حية

    يُشير الباحث والكاتب المخضرم «روبرت جرين» إلى مفهوم يستحق الذِكر والتذكُّر باستمرار، وهو أن الإنسان في مختلف مراحل حياته يعيش بين وقتين «وقتٌ حي» و «وقتٌ ميت». أو كما أوضح هذا المفهوم لتلميذه «رايان هوليدي» بقوله: «… بينما ينتظر الناس اللحظة المناسبة، هناك نوعان من الوقت الذي يعيشونه: الوقت الميت حيث يكونان سلبيين وفي حالة تمني؛ ووقتٌ حي، حيث يتعلموا ويتصرفوا ويستفيدوا من كل ثانية نحو مستقبلهم المنشود. أيًا فيهم يمثّل حالتك؟».

    ولكن السؤال.. ماذا عن روبرت جرين نفسه؟.. هل أطلق هذا المفهوم في الهواء دون أن يُطبّقه على نفسه؟.. يجيب (هوليدي) على هذا السؤال:

    «روبرت هو واحد من أكثر الناس إنتاجية، أعلم ذلك جيدًا لأنه عاش هذه النصيحة فعلًا، فخلال خمسة عشر عامًا، كتب خمسة كتب (أصبحت كلاسيكية) ومن المؤكد أنها ستعيش بعد فترة من موته. ما لا يعرفه الكثيرون عنه هو أن فترة الإبداع التي كانت خلال خمسة عشر عامًا كانت قد بدأت مع بدايات أربعينياته. لكن قبل ذلك، لم يفعل سوى القليل جدًا مما كان يعتقد الناس أنه أنجز في حياته. أعتقد أنه قال مرة أنه عمل في ثمانين وظيفة مختلفة في السنوات التي سبقت عمره الأربعين، بينما كان يبحث عمّا يريد أن يفعله في حياته.»

    ويُضيف «هوليدي»: «بالنسبة لمعظمنا، نعيش عقودًا من الوظائف منخفضة المستوى حتى تُصبح في حياتنا بمثابة وصفة الموت (أو ما أطلق عليه جرين وقتٌ ميت). في الواقع، كانت كل لحظة -جيدة أو سيئة في تلك السنوات التي سبقت عمر الأربعين لروبرت جرين – هي تجهيز وتوسيع صورة روبرت الأكبر للعالم. المدراء مريضي النفسية، الرفض، تحركات السُلطة عليه، العلاقات. كل هذه أصبحت رؤًى انعكست في كُتبه وأصبح الكثيرين يتعجّب بها. كل ما سبق أربعينيته كان موادًا خام لنجاحه -منقطع النظير- بعدها، كما يقول.»

    الحياة الميتة: هي عندما ننتظر شيئًا ما يحدث. نعيش يومنا دون قضية واضحة تجعلنا نستيقظ من أجلها. وإن صح وصفها من ناحية أُخرى، هي تلك الحياة التي لا تدفعنا كل يوم من السرير لنبدأ اليوم. في الحقيقة، هي حياة مخيفة فعلًا -على الأقل بالنسبة لي- ولكن لحسن الحظ أن هذا النوع من الحياة يمكن له بسهولة أن يكون مؤقتًا، فإحساس الضياع الذي يصيبنا من فترة لأخرى إحساس طبيعي جدًا ويُمثل توقيته معنى الحياة أو الوقت الميت، وقدرة الإنسان بالوعي أن هذا النوع من الحياة مؤقت واختياري بالدرجة الأولى، سيقوده بعدها إلى البحث عن حياة أخرى أو وقت حقيقي ممتلئ بالحياة.

    الحياة الحية باختصار.. هي الحياة التي تدفعنا للاستيقاظ من أجلها. دائمًا ما يوجد فيها شيء يخطف أنفاسنا عندما نفكر به أو نعمل عليه، دائمًا ما يوجد فيها شيء سيتحقق عمّا قريب.. كتاب قادم، افتتاح المشروع، الانتهاء من فيلم للعمل على فيلم قادم، السعي لترقية حقيقية ومستحقة، ميدالية ذهبية أو رقم قياسي أو جائزة عملنا على الحصول عليها طيلة أشهر مضت.

    تجدُر الإشارة بأن «روبرت جرين» قد أخرج للعالم العديد من أهم كُتب السلوك البشري ومنها: ٤٨ قاعدة في القوة، قوانين الإغواء، ٣٣ استراتيجية في الحرب. وكلها تشكلت وبُنيت على أبحاث شديدة العُمق.


    References:

    1. 23 Lessons I Learned From Robert Greene On Strategy, Mastery And Power By Ryan Holiday
    2.  Alive Time Vs. Dead Time: Which Are You In? By Ryan Holiday

  • مشكلة العيش في الخيال والعيش في الواقع

    قدرة الإنسان على التخيل نعمة لا شكْ فيها، وقدرته على التعايش والقناعة والسلام الداخلي مع (مطبّات) الحياة نعمة أخرى لا شكْ فيها. ولكن..

    يهرب الإنسان في خياله عمّا لا يريد مواجهته في حياته الواقعية، ويتجنب لأقصى درجات التجنب مشاكله وتحدياته حتى يصل أحيانًا لمرحلة الإقصاء التام، كما يؤمن الطبيب النفساني «إم سكوت». وذلك الرجل مهما كان متطورًا وذو استطاعة، فهو يميل إلى التجنب وعدم الاستمرار بالوقوف أمام كل مشكلة بصدق، ومع الأسف.. ذلك الرجل هو كل الرجال.

    لكن.. ماذا سيحدث إن استطاع الإنسان أن يعيش في خياله من أجل أن يعالج واقعه؟.. ماذا سيحدث إن استثمر في الخيال من أجل سعادته على أرض الواقع؟

    عندما يُصاب الفنّان بحالة الاقتناع التام بأنه يريد أن يكمل حياته وهو ممارسًا لفنه، فهو يقول بشكلٍ غير معلن أنه يريد أن يعيش حياته ورغباته كما يريدها بحذافيرها.. لكن في عالم الخيال. هناك لا يوجد من يحاسبه، لا يوجد من يحكم عليه ويختبر وقاره وصبره، هناك لا يوجد بالنسبة له الكثير من الأغبياء، ولذلك يعيش بقية عمره بحثًا عن حياته وذاته بين لوحة يرسمها أو كلمات يكتبها، أو أغنية يلحنها. يعيش حياة أخرى.

    هناك.. يخرج الفنّان أمراضه وأحلامه وقناعاته التي لا يحتملها هو نفسه عندما يكون إنسانًا على أرض الواقع.

    [tweet_dis]هناك في الخيال.. يرى الرجل نفسه أخف وزنًا، وبين العشرات من النساء، وبالطبع ليس أصلعًا أو مريضًا، أو مهمومًا بمشاكل ليس له علاقةً بها.[/tweet_dis] وبهذه الفسحة والفرصة من الخيال، يعيش نعمة من أهم نِعم الله عليه في حياته عندما ينقلب الخيال ليصبح تارًة أمل.. وتارًا تصبيرة.. وأحيانًا يشكل الخيال مع الأمل أقصى درجات الحماس في النفس البشرية، ليرى أمرًا كان خيالًا وأصبح واقعًا. حماس المفاجآت والإنجازات لم يكن سيكون ممتعًا إن لم يسبقه خيالٌ واسع، والعكس صحيح، عندما تقتلنا هموم الواقع إن لم يكن هناك خيال يجعلنا نتعايش معها بالطول والعرض، أو كما يقول الطغرائي «أعلل النفس بالآمال أرقبها.. ما أضيق العيش لولا فُسحة الأملِ».

    مشكلة الحياة الواقعية، أنها ليست واقعية متفردة تمامًا لدى كل إنسان لوحده. فهي تُبنى وتُعاش في غالبها من أجل عيون الآخرين. والمفارقة، أن الواقع يُقاس بشيء خيالي، وهو رضى وحب الآخرين.. والخوف منهم، والخيال فيه يتشكّل في إرضاء كل ما يراه الآخرين.. وهذا الطموح ليس إلا خيالًا في نهاية الأمر.

    الحياة الواقعية دون مساحة كبيرة من الخيال تقود الإنسان لأن يعيش مثل الدابة.. تأكل وتشرب وتنام ولا تبحث عن أقصى استغلال لقدراتها العقلية. تُفضِّل أن تتعايش مع «العقل الجمعي» اتقاءً للمخاطر والأحكام والأغبياء. ولسان الحال يقول: إن كنت مثل البقية.. إذًا فأنا موجود.

    من يتقن الخيال.. لا يود أن يعيش نصف حياة.. لا يريد أن يكون ضمن وصف جبران:

    «نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك، نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة. النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان.»

    هناك من يتخيل فقط، وهناك من يتقن الخيال لحياة أفضل. من لا يتقن الخيال لا يعيش واقعًا أفضل. ولا يعيش حياة دون عُقد أو أمراض في عقله.

    من لا يتقن الخيال.. سيتقن الخوف.

زر الذهاب إلى الأعلى