الشهر: يونيو 2019

  • تُخمة معلومات

    عند المقارنة بين الإنسان المعاصر وبين الإنسان قبل عقدين، سنلاحظ أن أحد أهم التغييرات في نمط الحياة يتشكل في تُخمة المعلومات الزائدة عن الحد.

    ففي وسط مشاهدتنا لصور أصدقاءنا وأطفالهم وحفلاتهم التي يحضروها، تقفز مشاركة الخطوط السعودية لنا بعروضها المخفضة لفصل الصيف، وعرض آخر لتجربة قيادة «بينتلي كونتينينتال» التي يقترب سعرها من المليون ريال، وبالطبع كِلا العرضين لا يستطيع ٩٨٪ من الناس الحصول عليهم دون تخطيط مسبق من الأساس. فنادرًا ما «تهبُق» العائلة لشراء ستة تذاكر خلال شهر أو شهرين دون تخطيط مسبق، وتنسيق إجازات العمل وادخار مصاريف السفرة منذ بداية العام، وبالنسبة للشاب الأعزب فلن تُشكل بِضع مئات من الريالات المخفضة عرضًا مغريًا إن قرر السفر الآن وفورًا أو حتى خلال شهرين. والبنتلي ستكون موجودة في الجنة إن شاء الله.

    وفي وسط الازدحام البصري لأصدقائنا واحتفالاتهم، تكتفي إحدى الآنسات بتصوير نفسها لمقطع يتجاوز الست دقائق وهي تُغني. تغني فقط. وإن قررت أن تكون متطورًا فكريًا فستُفضّل أن تتابع أصحاب العقول والفِكر والذين لا يمارسون الظهور إلا لأسباب على الأغلب تشبه أسبابنا. الفضفضة أو التعبير عن موضوع غير مهم (كالسخرية من ترمب، أو التعليق على فيلم).

    فأصحاب الفِكر يعملون في فِكرهم بعيدًا عمّا يظهر لنا، فهم على الأغلب يعملون مثلنا في النهار، ويفضفضون في المساء، ليأتي نهار ثاني ننشغل نحن بفضفضاتهم ونعطل تركيزنا عمّا في أيدينا.

    والأخبار.. قصة أخرى.. فهي بالتأكيد لن تُقدّم ما يتجاوز ١٪ قيمة لحياتنا مقابل الوقت المستقطع عليها. والخبر الأهم والذي قد يلامسنا بشكل ما مباشر (كخبر: فتح باب التعيين لوظائف الملاحين في الخطوط الفلانية) على الأغلب سيصلنا من أحد الأصدقاء أو من إحدى سيدات قروب العائلة.

    مقالات الرأي ومقالات التحليل والكُتب.. والتواصل الجاد مع الأصدقاء أفضل من هذه التخمة التي لا تُشبِع.

    استعراضي للأمثلة قد يكون سطحيًا إلا إنني عندما أكتبها وأراها أمامي الآن، أستوعب أن هناك بالفعل خللًا ما فيما أضع عيني عليه كل يوم ودون توقف.

    وفي أسبوعي الثاني الآن من مقاطعة التواصل الاجتماعي ومواقع الأخبار (التي أضفتها على قائمة المقاطعة)، لازلت أعاني من تخمة معلومات بشكل آخر في الواتساب ومجموعاته، ونيتفليكس.

    وكأن نمط الحياة انقلب ليصبح شديد السهولة في الحصول على معلومة.. إلى درجة أن الحصول عليها أصبح شديد الصعوبة في نفس الوقت!

    أعتقد أننا يجب أن ننتبه من تخمة المعلومات.

    ننتبه ونحزن قليلًا على عقولنا.

  • تجربة مقاطعة التواصل الاجتماعي لمدة ٣٠ يوم

    أقوم هذه الأيام بحملة مقاطعة مؤقتة لمدة ثلاثين يومًا لقنوات التواصل الاجتماعي، تحديدًا فيسبوك وتويتر وانستجرام.

    لدي العديد من الأهداف خلف هذه الخطوة، أولها كبح جِماح الإدمان الذي عانيت منه، فأنا من الشخصيات الضعيفة أمام قنوات التواصل الاجتماعي بصراحة، تشدني الأخبار التافهة أكثر من المهمة، وأصبحت تغريني التغريدات الفارغة أكثر من الكُتب، وبالطبع التركيز المستمر والدقيق أصبح مهمة في غاية الصعوبة لشخص يحب أن يكتب ويحتاج لتركيز صلب كالحجر.

    حجم الضغط كان كبيرًا عندما ضغطت على خيار «إيقاف الحساب مؤقتًا». قلقت من عدم وصول المقالات أو ما أود قوله للأعزاء القُرّاء، في الوقت الذي كنت أجد فيه نفسي لا أحرص للظهور بشكل منتظم وأخبر الآخرين أنني موجود، دون أن أُقدّم لهم مقالة أو تغريدة وجدت أنها بالفعل تستحق المشاركة.

    بلغة أخرى، لستُ مدمنًا على الظهور قدر إدماني على المتابعة.

    رِهاني خلال هذه الفترة هو صرف المزيد من الطاقة الذهنية على الكتابة والقراءة وإنجاز المعلقات من مهام عملية، ورهاني الآخر هو اعتمادي عليك. أنت عزيزي القارئ لمقالاتي متأملًا نشرك للمقالات التي أكتبها مع من تُحبهم. بدلًا من التركيز على البحث عن شخص سيعطيني بعضًا من وقته المنتشر على التغريدات ومشاركات التواصل الاجتماعي الأخرى.

    يملك القارئ اللبيب لهذه المقالة خلفية جيدة عن ضرر قنوات التواصل الاجتماعي في تعزيز «الأنا» والسطحية، وتضييع الوقت أو الذهن. ولن أغامر بإقناعه حول هذا الأمر أو تذكيره بأن هناك جوانب إيجابية أخرى بالطبع. لكن، المشكلة تتشكل في حالتي؛ بأن صنعة البحث والقراءة والكتابة بطبيعتها لا تحتاج إلا لوقت طويل غير منقطع وبشكل يومي، وهو أمر مختلف قليلًا عن بقية الوظائف والتخصصات الأخرى، وبالتالي أصبحت الأحوج لها.

    العالم لا يحتاج لرسامين أو رجال أعمال أو لكُتّاب يشاركون صور أبناءهم أو أطعمتهم أو تغريدة تبحث عن البحث عن التقدير مثل «مرحبًا…..» أو «كيف أصبحتم؟». العالم في نظري يحتاج للمزيد ممن يحاولون صُنع محتوى حقيقي. يغير شيء ما في مكانٍ ما.

    جرب مراجعة حسابات الفنانين أو الكُتاب المهمين في حياتك في قنوات التواصل الاجتماعي. ستجد دون شك أن مشاركاتهم (السطحية) لا توازي حجم أعمالهم العميقة والكبيرة التي جعلتك من الأساس مهتمًا بهم ومتابعًا لهم.

    عندما تقرأ إحدى كُتب ستيفن كينج وتقارن محتواها بما كتبه لمدة سنة كاملة على قنوات التواصل الاجتماعي، ستجد أن الكتاب الذي كتبه يحمل قدرًا عاليًا من دقة المحتوى والإبداع والخيال، ونقصًا واضح في الأخطاء المطبعية. بينما يتمثل العكس في التغريدات التي لا تكف عن مهاجمة ترمب وسخرياته من فترة لأخرى بآخرين، ناهيك عن تصوير كلبه بشكل منتظم على الانستجرام؛ وإن حالفك الحظ، ستجد إعلانًا لكتاب جديد بين هذا الهراء.

    ينطبق هذا الأمر على معظم من تابعتهم من الفنانين اللطيفين بالنسبة لي. فلن تُسعدني رؤية عمرو دياب وهو ينشر صور حفلاته مؤخرًا، قدر انسعادي بسماع أغنيته «من كم سنة وأنا ميال ميال» التي تعب على إخراجها قبل أكثر من عشرين سنة. وهذا مؤشر بسيط لما أحاول لفت النظر إليه.

    الفن عمل حقيقي. والظهور عمل سطحي.

    أعلم مثلكم جيدًا حجم الفائدة من وجود التواصل الاجتماعي، إلا أن الفائدة قد غُطت تمامًا بالنسبة لي لتتحول لإدمان مزعج، أجده أحد أهم الأسباب التي جعلتني أعاني حتى في نومي بسبب الشاشة المُشعة وأنا على السرير.

    وهنا لن أغامر بالقطيعة تمامًا، قدر محاولتي للسيطرة.

    ويشرح أحد أهم المناصرين لفكرة إنقاص دور التواصل الاجتماعي، الكاتب «كال نيوبورت» في كتابه الأخير «Digital Minimalism» الطريقة المثلة في حياتنا عن كيفية التعامل مع التواصل الاجتماعي بنقاطه:

    أولًا: يجب عليك التخلص من الإدمان، بمقاطعتك لمدة ثلاثين يومًا للتطبيقات المسببة لك حالة من الإدمان.

    ثانيًا: بعد تلك الفترة يجب عليك العودة تدريجيًا محمِّلًا في ذهنك القيمة المباشرة التي سيعطيها لك كل تطبيق تواصل، عوضًا عن الانكباب عليها دون وعي كما كنت قبل الثلاثين يوم.

    وبالطبع يشرح بالتفصيل آلية هذه الخطوات. ولكن أكثر ما لفت انتباهي في منهجه هو الاعتقاد الجازم بأن المقاطعة في حقيقتها أمرًا ليس سهلًا إطلاقًا، فستجد نفسك في الأسبوع الأول ممسكًا بهاتفك طيلة الوقت للبحث عن شيء ما. وبهذا، اقترح «كال» التخطيط المسبق لما ستفعله بهذا الفراغ المفاجئ الذي سيصيب عقلك. وخطتي كانت بسيطة: كتاب. أينما كنت، وطيلة الوقت.

    وسأعترف باعترافات مهمة تخص هذه المقاطعة..

    أولًا: عندما أستقبل أحد الإيميلات اللطيفة من القراء الأعزاء، ليشكرني على مقالة ما أو كتاب ما، فهو يذكرني بالوقت الكبير، شديد التركيز، الذي صرفته على كتابة المقالة أو ذلك الكتاب، فبالتأكيد لم يكونوا سيُتعبون أنفسهم ويكتبون لي إن صرفت وقتها وقتًا أطول على التواصل الاجتماعي؛ فالكتب والمقالات لا تُنجز بنصف عقل مع الأسف، ولا تكتب نفسها بنفسها وأنا منشغل في قراءة خبر عن نانسي عجرم وحفلتها الصاخبة في جدة أو عن ابنة محمد صلاح التي أدخلت هدفًا في المرمى.

    في الحقيقة، أُحب نفسي أكثر وأنا أكثر إنتاجية وتركيز، وأعتقد جديًا أن القراء يحبونني أكثر وأنا أكثر إنتاجية وتركيز. في الوقت الذي عاهدت نفسي بأن تكون مهنة الكتابة هي المحرك الأهم لي على هذا الكوكب.

    إذًا.. لماذا كل هذا الإسراف في الوقت والذهن الصافي؟

    ثانيًا: سيقول قائل بأن هناك العديد من الأشخاص شديدي الانتاجية في محيطنا وهم في نفس الوقت شديدي الغزارة في تواجدهم على التواصل الاجتماعي، وهذا أمر صحيح بلا شك. إلا أنني أعترف مع الأسف أنني لست مثلهم، ولا أمانع أن قلت إنني أضعف منهم قليلًا في السيطرة على انتباهي الغلبان.

    عند مراقبتي لذاتي وجدت أن ادعاء كوني إنسانًا اجتماعي من الطراز الأول حقيقة، وكوني إنسانًا عاطفي حقيقة أيضًا، وهذه التركيبة هي التركيبة الأكثر تأثرًا سلبيًا بما تقدمه قنوات التواصل الاجتماعي. فهناك الكثير من الأخبار الساخنة، وبالطبع الكثير من الأصدقاء وأنصاف الأصدقاء والبشر الذين يحاولون إخبارك أنهم موجودين لتشاهد صورهم وأسفارهم.

    بينما أكون في المقابل في قمة صدقي وعطائي وفائدتي للآخرين ولنفسي، عندما أنشغل أكثر على صفحة «وورد» البيضاء لأكتب شيء ذو قيمة.

    ثالثًا: أعترف أن قنوات التواصل بالفعل كانت ذات فائدة عظيمة في حياتي، خصوصًا تحويل العديد من أصدقاء تويتر وفيسبوك وانستجرام لأصدقاء حقيقيين على أرض الواقع، وهذا أمر لا يقدر بثمن. إلا أن المشكلة تتمثل في انشغالي أكثر وأكثر عن الأصدقاء الحقيقيين واجتماعي بهم، طالما هناك فرصة للاجتماع بهم ومعرفة آخر مستجداتهم من خلال التواصل الاجتماعي!

    لازلت في أسبوعي الأول من المقاطعة، إلا أنني شبه متأكد بأن استشعاري بالالتقاء وجهًا لوجه مع أصدقائي سيكون ذو تأثير أكبر وأجمل إن ضغطت على نفسي ليكون هذا الأمر بديلًا عن المزيد من الوقت على شاشة الجوال. فما بالك ببناتي. ونومي. وعلاقاتي الاجتماعية الأخرى؟

    هناك العديد من فئات المدمنين على التواصل الاجتماعي، وأُعتبر إلى حدٍ ما أقلهم إدمانًا بصراحة، إلا أنني ما زلت في طور معاناة الإدمان. أُعزي نفسي بأنني لا أحب تصوير نفسي كثيرًا أو تصوير أكلي بشكل منتظم مثل حالة الدرجات المتطورة -في رأيي- من الأحبة أصحاب المعاناة الأكبر.

    وأخيرًا.. أجد أن التركيز على الإنتاج والإنجاز في القراءة والكتابة حتى وإن حرمني هذا الأمر من مشاركة ما أكتبه على التواصل الاجتماعي، سيعود عليَ بالنفع.

    والبركة فيك عزيزي وعزيزتي القارئة بتعزيز هذه الخطوة ومشاركة هذه المقالة وغيرها من المقالات العديدة التي كتبتها بصدق وتركيز حقيقي مع أحبائك في جروبات الواتساب وغيرها من القنوات المختلفة.

  • تملك صديقًا يُدندن.. إذًا أنت محظوظ

    دخلت قبل أسابيع للنادي، كان ذلك اليوم هو أحد الأيام الكثيرة التي لا أملك الرغبة فيها للتمرن ولا حتى لتحريك نصف عضلة في جسدي. وأصبحت أتسلح في تلك اللحظات بجهاز قارئ كيندل أو الآيباد وأنا على الدراجة أو غيرها من الآلات التي تشاركني حضور فيلم ما أو قراءة كتابٍ ما.

    عندما استقريت على الدراجة وقبل أن أضع السماعة.. بدأ صوت أحد زملاء النادي الفرفوشين الذين لا أعرفهم بالدندنة والغناء بصوت منخفض. صاحبه صمت غير منظّم من بقية المتمرنين، وبدأ الأخ الفرفوش لا إراديًا بإعلاء صوت دندنته لأغنية العظيمة شادية..

    «إن راح منك يا عيني.. حيروح من قلبي فين؟.. القلب يحب مرة ما يحبش مرتين..»

    ليُكمل بشجون مرتفع ومنقطع النظير..

    «القلب يحب مرة ما يحبش مرتين.. ما يحبيش مرتين.. ما يحبيش مرتين!».

    تفاجأت من نفسي وأنا أضع السماعة بسرعة -مُخفِضًا صوتها- لأبحث عن هذه الأغنية التي لم أسمعها منذ زمن طويل على الجوال، وأحاول أن أُستكملها مع شجون هذا الرجل. حتى وصلت لذلك المقطع الذي يغنيه وهو مبتسم مع صوت شادية «وحياة اللي جرالي … وياه من غير ميعاد.. لأسهّره الليالي … وأحرّمه البعاد.. واطّفي بناره ناري.. وأخلّص منه تاري ولا يهمك يا عين.. هيروح من قلبي فين..».

    انتهت الأغنية، وانفتحت نفسيتي على المزيد من هذه الحياة بما فيها لحظات النادي المملة.

    والتفتت، لأجد الرجل قد اختفى.

    من سوء الحظ، أن اللحظات الاستثنائية تبقى استثنائية.. فلدي صديق ذو صوت وأداء رائع، نادرًا ما يُدندن بشكل مباغت، لأجد نفسي وقتها محاولًا السيطرة على المحيط لكيلا يُعطل دندنته شيء، إلا أنه سرعان ما يلاحظ، ويتوقف عن الدندنة بسبب خجله، وأستمر دومًا بالضغط عليه ليُكمل، ودون جدوى.

    الغناء المفاجئ والدندنة تتلخص في كلمة العظيم هينري ميلر في وصفه: «نحن لا نغني لأننا نأمل بالظهور ذات يوم في دار أوبرا، بل نغني لأننا نملك رئتين مليئتين بالفرح. إنه أمر رائع أن نحضر مشهدًا جميلًا، لكن الأكثر روعة هو أن تلتقي في الشارع بمشرد مسرور لا يستطيع أبدًا التوقف عن الغناء كما لا يستطيع التوقف عن التنفس ولا ينتظر أيضا أقل مكافأة على جهوده. جهود! إنها كلمة ليس لها معنى عنده… هكذا إذًا يسقط العالم ذات يوم قطعا أولا وتصبح في معسكر الملائكة أو تصبح الشيطان ذاته، في الحالين خذ الحياة كما هي، وادفع نفسك فيها، وانشر البهجة والفوضى».

  • عندما تبدأ الشك في مقدرتك

    .. هناك مجموعة خيارات يمكن للإنسان القيام بها.

    1. أن يستمر في الشك (حتى ينتقل لإحدى المراحل التالية).
    2. أن يبحث عن مُسكّن لا يُشعره بالشك في مقدرته (التواصل الاجتماعي أفضل وأسهل وسيلة).
    3. أن ينشغل فيما بين يديه الآن.. وحالًا.

    من حُسن الحظ أن نتائج الانشغال فيما بين يدينا لا تظهر بسرعة، وإلا لكانت الحركة أثقل بكثير.

    لا نملك أحيانًا سوى القليل من الأدوات، والكثير من الشك.

    ونملك دومًا الكثير من وعي ما يجب علينا القيام به اليوم وحالاً.

    اليوم وحالًا.. ما بين يدينا.. هو ما يستحق التركيز.

    وغداً.. سيأتي يوم وحال آخر سيستحق تركيزًا آخر.

    شكّ اليوم يقطعه ذلك اليقين.. الذي يخبرك الآن أن شخصًا ما يجب أن يتحرك.

  • ظاهرة اختفاء الأصدقاء بعد الزواج أو نقصانهم في حياتك

    عندما عاش الفيلسوف «آيبيقور» بقية حياته زاهدًا، ومتقشفًا، ومعتمدًا على سعادته في وجود الأصدقاء العزيزين حوله بعد أن قضى شبابه في نمط حياة بالغ الرفاهية والإسراف والثراء، تشكل رأيه تجاه العلاقات بالأصدقاء بوصفه: «من بين جميع الأشياء التي تمنحنا الحكمة لتساعد المرء على عيش حياة كاملة مليئة بالسعادة، يعتبر امتلاك الأصدقاء أعظمها على الإطلاق».

    فليس هناك مستوى من السعادة يتجاوز جلسة مطولة مع صديق عزيز بغض النظر عن مكان الجلسة، والعكس ليس صحيح بالطبع.. فإن امتلك أحدنا أموال الدنيا دون امتلاك فرصة الجلوس مع صديق عزيز، فلن يكون سعيدًا على الأغلب.

    ويضيف: «قبل أن تأكل وتشرب أي شيء فكّر مليًا بمن ستأكل وتشرب معه لا بما ستأكله أو تشربه: إذ إن تناول الطعام من دون رفيق يشبه حياة الأسد أو الذئب».

    —–

    أنا من الشخصيات التي تعول كثيرًا على الأصدقاء، ولدي انتماء كبير لهم، وأستطيع أن أُضحّي ببعض النرجسية إن قلت إنني لا أستطيع أن أعيش دونهم.

    ويبالغ النفساني «كارل يونج» بوصفه للأصدقاء: «هم بمثابة اعتذار الرب [عز وجل وحاشاه] عن بعض أفراد عائلتك السيئين».

    ورغم اقتناعي بأهميتهم ودورهم في هذه الحياة، إلا أنني لاحظت اختفاءهم أو نقصانهم بشكل كبير لدى العديد من معارفي بعد ارتباطهم بالزواج. وعندما أقول نقصان الأصدقاء، أقصد تحديدًا «الأصدقاء» وليس «المعارف».

    أُقسّم الأصدقاء لثلاثة فئات في حياتي:

    • الدرجة الأولى: وهم الأصدقاء المقرّبين والعزيزين جدًا على قلبي، وأجدهم بمثابة الإخوة. وقد تصاحب ظروف الحياة ابتعادهم بشكلٍ ما، إلا أن الابتعاد لا ينقص من قدرهم. وبالطبع مع وجود المشاغل والأسرة، لن يعيب علاقتي بهم انشغال أحدنا عن الآخر فترة من الزمن.
    • الدرجة الثانية: وهم أصدقاء عزيزين، قد لا يصاحب وجودهم في حياتي لقاءات منتظمة، إلا أن معدل الحب تجاههم قد يزيد ولا ينقص، وهم يبتعدون درجة بسيطة عن الرجة الأولى.
    • الدرجة الثالثة: هم الأصدقاء الذين التقيت بهم مرة أو مرتين في حياتي، وهذه الفئة تتميز عن الفئتين الأولى أنهم على الأغلب يسكنون في الخارج، وهم من جنسيات مختلفة، وهم بالطبع الفئة الأقل والأقرب لفئة «المعارف» سابقة الذِكر.

    أجمل ما في مفهوم الصداقة هو عدم حِفّته للأبعاد النفسية السلبية، مثل الغيرة أو حب التملّك. فإن كُنت صديقك فأنا أيضًا صديق الكثيرين والعكس صحيح. عكس علاقة الحب التي سيظل يحارب الجنسين لحصر الطرف الآخر نحوه في حياتهم. وبالطبع، لازلت أحارب فكرة «الصديق الصدوق الأوحد» لأسباب يطول شرحها هنا.

    وعودة للظاهرة، اكتشفت أن هناك الكثير من الشخصيات الاجتماعية (كما يبدو عليها) في حياتي تتوقف تمامًا عن تطوير علاقتها بالأصدقاء القدامة بعد الزواج لسبب مجهول لي حتى الآن، في الوقت الذي أجد فيه أن أفراد الأسرة وزملاء العمل والمعارف مهما كانوا لطيفين، فهم لا يستطيعون أن يغطوا خانة الصديق الذي يستقبل فضفضاتنا وفضائحنا وأسرارنا ليشاركنا فيها وجدانيًا على الأقل.

    بل تفيد المدرسة النفسية أن عدم حرصك على التواصل مع الأصدقاء وعدم تلبية دعواتهم للقائك بشكل دائم يُعد أحد السلوكيات السلبية التي قد تقودك إلى الاكتئاب -لا قدر الله-. وبالطبع، لا أود أن أُعيد وأزيد عن نتيجة الدراسة الشهيرة لهارفرد بأن سر سعادة الإنسان في هذه الحياة يُختزل بالضرورة في جودة وقوة علاقة الإنسان مع من حوله.

    يميل رأيي لتفسير سبب عزوف بعض الأفراد عن تنمية العلاقة مع الأصدقاء بعد الزواج، إلى الاعتقاد بأن الأسرة وزملاء العمل والاجتماع بهم دومًا لا يستدعي الإضافة عليهم. فهم بمثابة العبء أحيانًا.. وليس الاستمتاع بوجودهم.

    وسيقول قائل بأن أنماط الشخصية تختلف من شخص لآخر ممثلًة في «الانطوائي» و«الاجتماعي» وهذا صحيح بالطبع، إلا أن الفارق الجوهري هو عدد الأصدقاء بين الشخصيتين ومستوى الصداقة، وليس وجودهم من نقصانهم بشكلٍ واضح.

    ويصف دو بوتون الأصدقاء المقربين استكمالًا للفيلسوف «آيبيقور»: «لا يقوم الأصدقاء بتقييمنا تبعًا لمعايير دنيوية، بل إن جوهر الذات هو ما يهتمون به؛ مثل والدين مثاليين، يبقى حبّهم لنا غير متأثر بمظهرنا أو مكانتنا في الهرم الاجتماعي، وبذا لن نخشى ارتداء ملابس قديمة أو الاعتراف أننا جمعنا مبلغًا ضئيلًا من المال».

    وبتعقيب الفيلسوف الأمريكي «رالف والدو إيميرسون» في وصفه المختصر للصديق العزيز: «هو الشخص الذي تستطيع أن تفكر أمامه بصوت مرتفع»، فلا يعمد الصديق العزيز إلى محاكمتك على أفكارك الشاطحة أكثر من مناقشتها معك بسخرية وتهكم. وفي حالات قليلة.. تقديم نصيحة لا تؤثر جذريًا على حياتكما سويًة. وبالطبع.. سيهتم لأمرك سواء كُنت غنيًا أم فقيرًا.. وزيرًا أم حارسًا لبوابة الوزير.

    تعمّد التواصل المنتظم مع الأصدقاء العزيزين هو الخطوة الأولى ربما لمعالجة هذه الظاهرة، وسيقود التواصل للاقتراب، والاقتراب سيقود بسرعة إلى التعايش واكتشاف أن الصديق له أهمية أكثر مما نتصور.


    مرجع:

    • دو بوتون آلن (ترجمة يزن الحاج)، عزاءات الفلسفة، ٢٠١٧، دار التنوير، ص ٧٢ – ٧٣.
زر الذهاب إلى الأعلى