الشهر: أكتوبر 2019

  • عندما نشتري أشياءً غالية لأبنائنا

    نتجه نحن الآباء لشراء الأشياء الغالية لأبنائنا اعتقادًا أنها التعبير الأكبر للحب، وجزء منّا يحاول أن يُخفي تقصيرًا ما.

    كل الذكريات التي أحملها من طفولتي لا تتضمن ملابسًا غالية أو مقتنيات ثمينة.

    ولا يهم إن سألت اليوم: هل كان والداي يشترون لي أشياءً غالية أم لا؟ فالذكريات بالطبع لا تصنعها المقتنيات. بل تصنعها الكلمات والأوقات والمواقف.

    يحتفظ الشاب عندما يكبر بكثير من اللحظات التي كانت تحمل الحب والتعليم والتوبيخ فقط. لا أذكر ماذا كُنت ألبس عندما صفعني أستاذ العربي على وجهي في صف الثانية ابتدائي عندما ظن أنني كنت صاحب الصوت الأعلى في الفصل وليس الأخ الذي أيضًا لا أذكره كان بجواري يصيح مثل الديكة، لكنني أذكر تمامًا كيف كان شعوري.

    ولا أتذكر من إحدى المناسبات سوى تخويف أهلي لي بعد أن صرّح أحدهم في العشاء أنه أكل ثلاث قطع من ورق العنب (تعبيرًا عن لذّته) لأقفز كطفل معلنًا أنني الفائز لأنني أكلت خمس قطع، وتنتهي تلك الليلة بتوبيخ صارخ من أهلي لأنني أشجع الآخرين على «إعطائي عين» بعد أن قلت عدد الحبات التي أكلتها، ليلتصق هذا الخوف من العين في عقلي طيلة سنوات طويلة وتصبح إحدى مخاوفي الكبرى في هذه الحياة، حتى تخلّصت من هذه العُقدة تمامًا على خير قبل فترة قصيرة.

    إحدى الأخوات كانت بارعة في طفولتها في حِرفة الخياطة، حتى دخل عليها والدها ووبخها أنها طفلة مثل العجائز تحمل في يدها قطعة قماش وإبرة الوخز، لتترك هذه الحرفة لحظتها وللأبد، بل أنها اعترفت.. «عندما دخلت الجامعة كانت إحدى المواد تتطلب عملًا فنيًا يتعلق بالخياطة، وفي كل وخزة إبرة أثناء عملي على القطعة كنت أتذكر ذلك التوبيخ».

    أتذكر المشاوير الفردية التي كانت بصحبة والدي.. ولا أتذكر بالضبط نوع السيارة أو الشماغ الذي كان يرتديه، ولا أتذكر إن حتى تفصيلًا واحدًا في ملابسي.

    أتذكر أجمل إجازة قضيتها في حياتي في شتاء الرياض منذ أكثر من عشرين سنة برفقة العديد من العوائل والأرحام، وأتذكر الألعاب والمغامرات التي كانت برفقة ابن عمتي وبنات عمي، ولا أتذكر في تلك الإجازة مناصب أو ثروات أو مقتنيات أحدٍ فيهم.

    الدروس والقيمة والتأثير يُصنعون من البشر، وليس من مقتنياتهم أو أموالهم أو مناصبهم.

    الذكرة والتكوين تُصنع من الكلمات.

    وأعلم اليوم أن بناتي سيبحثون عن الكثير من الوقت برفقتي، وسيتذكرون لحظات هذه الرفقة ويحكوها لأبنائهم.. وربما إن كان لديهم فائض من الذكرى، سيعلمون كم صرفنا أو اشترينا لهم.

  • ما هي حقيقتك خارج التواصل الاجتماعي؟

    بدأت القصة من هنا:

    «أصل إلى عملي كل يوم الساعة السادسة صباحًا، قبل ساعتين من فتح المتجر. تنتظرني الصناديق في الممر وهي مكدسة. رشفة أخيرة من قهوتي، ثم أرتدي قفازاتي وآخذ نفسًا عميق. وأقول لنفسي لقد حان الوقت للعمل. أقوم بإغلاق الصناديق، وأقطع الأسطح المفتوحة بالمشرط، لأخرج المخبوزات المصنوعة من الحبوب الكاملة والنان والكوكيز الخالي من السكر لأضعها على الرفوف، ثم اسحب الفائض إلى الفريزر الخلفي. يستغرق الأمر ما يقارب الساعة لتكديس جميع الصناديق في الأماكن الصحيحة، ووضع الملصقات عليها وترك الثلاجة نظيفة. ثم أسير إلى المخبوزات وأتأكد من أن الكعك متناسق وموضوع في عُلبه الصحيحة. بحلول الساعة الثامنة، عندما يتم فتح المتجر، أقوم بتوفير مساحة للعملاء المبكرين. وفي الساعة العاشرة، أثناء استراحة الغداء، ألتقي بزوجي في البار الرياضي أسفل الشارع لآخذ طبقًا من بطاطا «الهاشبراونز» ذات اللون البني والنقانق والبيض. وقتها أكون قد وصلت إلى مرحلة التضور من الجوع، فلقد عملت بجد.

    أعرّفكم بنفسي [شاونا جيمس أوهيرن] الكاتبة الأفضل مبيعًا (لكتاب طبخ خالٍ من الغلوتين) الحائز على جائزة جيمس بيرد. لمدة تسعة أشهر، عملت في متجر المخبوزات المحلاة مقابل خمسة عشر دولارًا للساعة. إنها أفضل وظيفة عملت بها على الإطلاق.

    وعلى الإنترنت، لا أحد يعلم أنك فقير.»

    استشهدت صحيفة النيويورك تايمز بشاونا كأحد أفضل الكاتبات التي كتبوا عن الطبخات الخالية من الغلوتين، تملك آلاف المتابعين في مختلف قنوات التواصل الاجتماعي، وهي بالعرف السائد «مشهورة». ولا يعلم أحد شيءً الجزء الآخر من حياتها.

    «لا أحد يلتقط صورًا للعلب التي تحمل الفواتير التي يجب أن يدفعوها… وقليلون جدًا من يناقشوا الخيارات التي تبعدهم عن حافة الإفلاس أمام العلن» بل وعلّقت شاونا تعليقًا يصف حالة التهكم التي تعيشها بعدما شاركت رأي صديقتها آشلي «أحاول أن أُفاضل بين خطط التأمين، لكنني ما زلت متأكدة أن خطة التأمين الأفضل في هذه الحياة هي الثروة.»

    وأضافت «لم أشارك أبدًا عبر الإنترنت تلك اللحظات التي بحثت فيه أنا وزوجي داني في حسابنا المصرفي لنجد فيه ٨٥ دولار فقط، في الأسبوع الأخير من الشهر، ونحن لا نملك حساب توفير. انخفض تقييمنا الائتماني بعد أن صرفنا الكثير من المال أثناء علاج ابنتنا لوسي في المستشفى… صحيح أننا توقعنا اقتراب حصولنا على مبلغ ستة آلاف دولار من إحدى مشاريعنا الحرة، لكن مع الآسف تأخر الشيك».

    كانت شاونا -الإنسانة اللطيفة والمكافحة- تعيش بين حالتين نقيضتين تمامًا، قمة الشهرة والمجد والحياة التي يتمناها الكثيرين على التواصل الاجتماعي، وبين حالة اقتربت من خط الفقر على أرض الواقع. كانت تحاول أن تأخذ مشاريعًا حرة من هنا وهناك حتى وصلت إلى مرحلة من الضغط اضطرت فيها إلى التركيز على الدخل المضمون في المخبز عوضًا عن العيش في حالة من التهديد والتشتت.

    «لم أعد مهتمة بمتابعة النعمة التي كنت أعيشها [مواهبها في الطبخ]، أريد فقط أن أدفع الفواتير».

    عادت لاحقًا شاونا إلى ممارسة ما تحبه في التدوين عن الطبخ، بعد أن انقطعت فترة طويلة عن تحصيل أي مبالغ من كونها معروفة أونلاين. حتى كتبت كتابه الأخير (Enough: Notes from a Woman Who Has Finally Found It).

    *****

    لي صديق آخر تشبه حالته حالة شاونا، يتمتع بشعبية كبيرة (مئات الآلاف من المتابعين) وهو لا يزال يعاني الكثير من النقص والتحديات في حياته. نستنجد نحن من نحب الظهور بالعديد من الثواني التي تخفي حقيقتنا خلف الصور، لا نشارك الآخرين إلا ما نحب أن نوهم أنفسنا به، نفقد في معظم الحالات السيطرة على الواقع مقابل وجود سيطرة مؤقتة على صورتنا في العالم الافتراضي، ولا نقترب أبدًا من النقاش الذي يدفع بنا إلى الزاوية الضيقة التي تظهرنا كبشر طبيعيين، نعاني من الوحدة والملل من الصعوبات؛ أو الوِحدة الحقيقية التي يحتاجها الإنسان المعاصر ليجلس ويواجه نفسه. نعتاد بسرعة إلى الشكوى لفضاء التواصل الاجتماعي من الحالة التي لا تخصنا والآخرين، ونُقحم أنفسنا في قضايا كثيرة لا علاقة لنا بها، إلا قضية واحدة: أن نجعل واقعنا صحي بعيدًا عن التوتر ومليء بالقناعة. وقبلها.. أن نجلس ونصارح أنفسنا.

    لا يعلم الآخرين أننا نشارك مثلهم في المسرحية. ولا يعي المتابعين المتحمسين أنهم يطلقون على بعض المشاهير سهمًا جارح عندما يخبرونهم أنهم يتعلمون منهم ويجعلون منهم قدوة، والأخيرين لا يقتاتون سوى على هذه الكلمات في حياة يملأها الخواء.

    كل الحل في اليوم الذي تقضيه يومًا بيوم.. تبحث فيه عمّا يتعبك ليجعل منك إنسانًا أفضل.

    كل كلمة تكتبها أو عمل تنجزه يقودك خطوة إلى ما تريده، أم الآخرين فهم جماهير للمسرحية.

    كل قناعة وحياة بسيطة تختارها وتدرب نفسك على تبنيها تجعل منك حقيقيًا، وربما تدفع لك الفواتير.

    الإنسان نتاج خلوته.

    كان الله في عون الجميع.


    هذه المقالة مقتبسة (بتصرّف) من صحيفة الجارديان.

  • أمر واحد تعلمّته من اللطف

    … أنه في حالات كثيرة ليس سهلًا.

    يمكن للإنسان أن يكون لطيفًا مع الآخرين معظم الوقت، وفي الحالات الكثيرة تصعُب هذه المهمة وقت المشاحنات وعند الإحساس بالظلم مهما كان طفيفًا.

    لا نستذكر أن الطرف الآخر خلف حساب تويتر أو خلف سماعة خدمة العملاء إنسان ذو مشاعر مثلنا تمامًا، وبسبب عدم ظهوره بتعابير على الوجه ولغة جسد، نبادر باتخاذ القسوة والكلام الجارح كبديل سريع عن اللطف لإياصل ما نود قوله. ولسببٍ أجهله، تظل قابليتنا نحن البشر على استحضار الكلام البائس أسرع بكثير من حرصنا على اللطف.

    ولذلك دائمًا ما أُشجع الآخرين ونفسي على تبني المبالغة أحيانًا في اللطف أثناء الحديث على الواتساب أو الإيميلات، فالمبالغة هنا تعوض عدم ظهور نبرة الصوت وتعابير الوجه ولغة الجسد.

    وإن لاحظنا، سنجد أن المبالغة في اللطف أثناء كتابة رسالة ما، قد تظهر للمتلقي مجرد لطف عادي. وعلى العكس.. قد يظهر الكلام العادي كنوع من القسوة لأنه خالي من التعابير الجسدية.

    وما تعلمته.. أن اللطف دائمًا لا يخيب الظن.

    كان الله في عون الجميع.

  • لماذا أصبحنا نبحث عن المختصر المفيد دائمًا

    في كتابها (Off The Clock) تسخر الكاتبة «لورا ڤاندركام» من خطوة اختصار الوقت لمن يشاهد مسلسلات نيتفليكس عندما يظهر خيار تجاوز المقدمة (Skip Intro). حيث تطرقت إلى اعتقاد أن من يتجاوز المقدمة عند كل حلقة، قد وفّر الكثير من الوقت الضائع خلال الأسبوع. شرحت زاوية السخرية بقولها: إن كنت تريد فعلًا توفير الوقت، فلا تشاهد نيتفليكس من الأساس.

    وعشرات الأشخاص الذين اقترحوا عليَ التركيز على كتابة مقالات مختصرة وكتب أقل في عدد صفحاتها (رغم أنني لا أجد كتاب كوهم الإنجاز ٢٣٠ صفحة مثلًا كتابًا طويل)، ودائمًا تكون الحجة واحدة ومعروفة: أننا أصبحنا في زمن يبحث فيه المتلقي على المختصر المفيد.

    ويشجعني آخرون على عمل مقاطع مشاهدة لا تتجاوز الدقيقة أقول فيها ما أريد أن أُفتي به على الجمهور. بدلًا من التركيز على المقالات وتأليف الكُتب. بل أن بعض القرائ الأحبة كانوا قد قيّموا كُتبي بتقييمات منخفضة لرغبتهم في عدم التطرق بتفاصيل كثيرة لبحثي عمّا كتبت عنه.

    (أعطينا المختصر المفيد) هو المفهوم الذي يجعل الكثيرين يبحثون عن وقتٍ أكبر في أمور أكثر فراغة.. كتمضية الوقت على قنوات التواصل الاجتماعي!

    لا يستطيع الإنسان أن يبني معرفة حقيقية باطلاعه على المختصر المفيد، ولن يستمتع بشكل حقيقي محب كرة القدم إن اكتفى بمشاهدة أهداف مباريات فريقه المفضل كل مرة. وبالتأكيد لا قيمة لمحب الأفلام إن اكتفى بمشاهدة بضعة دقائق تختصر عليه الأحداث من فيلمه المفضل.

    المعرفة والتثقّف والترفيه لا يجب أن يعاملوا باختصار. وعلى الأغلب لن يكون الاختصار مفيدًا كما نعتقد، فالحياة بكل تفاصيلها تحتاج إلى الصبر والوقت والاستحقاق لها.

    يُخرِج الاختصار المتلقي من السياق.. فلا يعلم القارئ ما هي القصة خلف خروج الكاتب بفكرة أو نصيحة ما في كتابه إن قرأ المختصر المفيد، ولا يعرف مشاهد الأهداف أن اللاعبين ومدربهم كيف تعبوا حتى فازوا في المباراة.

    ولا يعلم كل من يحرص على المختصر المفيد أن الأساس في أخذ الطريق الطويل هو الاستمتاع بالوقت الطويل بالدرجة الأولى.

    أن تُرمى وسط أحداث الرواية وشخصياتها، وتنتظر المساء لتكمل قراءة النص الذي سيعطيك خيالاً استثنائي هو المتعة الحقيقية، ومنه الفائدة العظمى في بناء المفردات واللغة وتوسيع المدارك.

    أو كما يفعل صديقي العزيز عبدالرحمن يماني بقوله «عندما تأتي مباراة مهمة، أشاهد التحليل قبلها ووسطها وبعدها.. ببساطة لأن شغفي ومتعتي بالمباراة لا تكتمل دونهم».

    المعرفة والترفيه وجهان لعملة واحدة، يستحقون الكثير من الجهد والصبر لنستمتع بهم. أما المختصر المفيد، فيأخذ بنا إلى التسطيح وإلى المزيد من الوقت المتوفر لأمور ليست مهمة.

    اقترح الإطلاع على المقالة الرائعة للآنسة العنود الزهراني في هذا الشأن أيضًا.

  • الجانب المظلم في المشاعر

    «عندما نواجه أي شيء جديد في حياتنا، فإن العقل يُظهِر لنا الجانب الجيد منه ويُخفي حجم التضحية التي يجب أن نقوم بها..» يقول مارك مانسون، ويضيف في موضع آخر «.. ومعظم الأمور التي تُشعِرُنا بالراحة هي ليست في الحقيقة أمور جيدة لنا».

    ووصفه الأخير سهل الإسقاط إن تذكرنا سيجارة الصباح أو قطعة الكيك المغطاة بالشوكولاته.. أو الجلوس لمدة ثلاث ساعات أمام شاشة نيتفليكس.

    والعكس صحيح.. فيبالغ العقل دومًا في تصوير الأحداث السيئة، ونستطيع أن نستذكر العديد من التحديات والمشاكل التي واجهتنا في حياتنا لنكتشف لاحقًا أنها أقل كثيرًا مما كانت تبدو عليه.

    تميل عاطفة الإنسان للمبالغة، والسبب غريزي بالدرجة الأولى بحثًا عن البقاء، فشعورنا الجيد يربطه العقل بالبقاء (المزيد من الحياة إن صح الوصف)، والشعور السيء يرتبط بالموت كأقصى جهة من القطب الآخر.

    فعندما نتخيل أنه من الممكن أن نُطرد من وظيفتنا بعد أن قضينا فيها عشر سنوات، قد نُصاب بخيبة أمل كبيرة وشعور سلبي يسيطر على أدقّ التفاصيل في حياتنا.. فالعقل يبالغ في استقبال هذا الشعور حتى يُظهره على مقربة من الموت:

    طُردت من العمل، إذا سيتوقف دخلي، إذا سوف أجوع وسيجوع أبنائي، ثم سأموت من الجوع.

    وبالطبع هذا النمط الغريزي في العقل الباطن غير واقعي، ولكن لا تميل العاطفة لموازنة المخاوف أو المشاعر الجيدة، ولذلك لا يمانع أحدنا أن يتناول أربع حبات كوكيز دفعة واحدة إن كان لديه مساحة لها، فالشعور هنا رائع رغم الضرر الكبير على المدى الطويل.

    تميل العاطفة للمبالغة في الخوف والمبالغة أيضًا في الإحساس بالمشاعر الجيدة. ومهمة العقل أن يضع المشاعر في حالتها الصحيحة.

    وجدت مع التجربة أن البحث عن الواقعية والابتعاد عن التأثر العاطفي ومحاولة إضفاء التوازن على الأحداث أمر في غاية الأهمية، وهو ليس أمرًا سهل.

    ويقترح مانسون مرحلة متقدمة في التعامل مع المشاعر كأن يسأل الإنسان نفسه عندما يضع هدفًا يُشعره بشعور جيد «لماذا اخترت هذا الهدف؟» فالسبب وراء الأهداف الجيدة قد تكون ليست ذي قيمة، أو قد تكون عاطفية بحتة.

    مثال: أريد أن أُصبح كاتبًا.. هذا الهدف.

    وهناك عدة أسباب خلفه: ١. أن أصبح مشهورًا ٢. أن أكون غنيًا ٣. أن أُغير حياة الأخرين ٤. أن أنقل تجاربي التي تستحق أن تُكتب.

    معرفة المحرك أو السبب قبل الهدف تساهم في أمرين، أولًا: إضفاء المزيد القيمة لاستمرار هذا العمل لفترة أطول، ثانيًا: إعطاء جودة أكبر لخطوات تحقيق الهدف نفسه. فلن يسعى الكاتب الذي اختار تغيير حياة الآخرين أن يكتب مع الوقت هراءً لا قيمة له.

    كل هذه المحركات محركات لهدف جيد، لكن العاطفة خلفها تحدد أين يجب أن نقف، لأن المشاعر خلف الأربع محركات مشاعر لطيفة للنفس.. ولكن ليست بالضرورة جيدة على المدى الطويل.

    عندما يجد الإنسان نفسه منجرفًا لمحاولة تغيير مباشر وسريع في حياته، فإن السبب يرجع إلى تأثر بالغ في عاطفته. فإن استيقظ من نومه فجأة ليقرر بأن يكون إنسان صحي ويخفف وزنه ويقلع عن التدخين لأنه التقى البارحة بصديق قديم قد نجح في هذا الأمر، وآخر انتقده على زيادة وزنه، قد يُصدم من عدم قدرته على مقاومة أول حبة دونات تظهر أمامه. لأن الدافع عاطفي وليس عقلاني صاحبه الكثير من التخطيط والتفكير.

    نفس هذا الإنسان إن توقف قليلًا وبحث عن أفضل الطرق الواقعية لتطبيق هدفه سيجده أمرًا ليس سهلًا، كالبحث عن أقرب نادي من منزله، واعتزال الأصدقاء المدخنين لبعض الوقت، والتخطيط الدقيق حول وجود البدائل لتفاصيل حياته الحالية وإعادة جدولة الكثير من الأمور وغيرها..

    مثل هذا الإنسان يصور له عقله شكله أمام المرآة وهو نحيل ويرتدي بدلة بجسد ممشوق، ولا يريه الخمسين ساعة خلال الشهر التي يجب أن تُصرف في النادي، ولا يذكّره بضرورة تجنب الستة عشر حبة دونات التي كان يتناولها في الأسبوع، وبالطبع لا يتطرق عقله للاختلاف الجديد في اختيار المطاعم عند خروجه مع أصدقاءه، الذين سيغرقونه بوابل من السخرية، وقد يتجنبون الخروج معه لاحقًا.

    نجحت موجات كثيرة في حياتنا في استغلال هذا الاندفاع العاطفي، ففترة الصحوة مثلًا كانت محاضرة واحدة عن عذاب القبر كفيلة بأن تهز كيان الشاب المراهق وتجعله يعيد حساباته، ليستيقظ اليوم التالي وهو مندفع لصلاته ودعاءه وانضباطه الشعائري، ليختفي هذا الأمر مع الوقت، ويبحث عن محاضرة أخرى تعيده للطريق! وكل المشكلة هنا تتشكل بأن أوقات عدم الالتزام بهذه الشعائر تجعل نفس الشاب يعيش في دوامة كبيرة من عُقدة الذنب التي تُشِل تفكيره.. فلا هو المنضبط في شعائره، ولا هو الإنسان المستمتع بحياته بسبب الذنب.

    ليصبح الاندفاع العاطفي هو المحرك بعيدًا عن واقعية الحياة.

    يظل التوازن هو المطلب الأهم في التعامل مع المشاعر، فإن انجرفت بسرعة يجب أن يوقفها العقل، وإن خافت كثيرًا يجب أن يهدئها العقل.

زر الذهاب إلى الأعلى