الشهر: أبريل 2020

  • خفة الدم وقت الأزمات

    لدي قناعة أن مجتمعاتنا الخليجية المتصحِّرة يغلب على عاطفتها ميلها للحزن من القدر أكثر من ميلهم للسخرية من الحال البائس. وقد يقول قائل إن هذا الأمر شيء طبيعي، حتى وإن كانت خفة الدم ظاهرة في النِكات -غير معروفة المصدر- فإني سأغامر برأي مفاده، أن مفعولها لحظي وأقل بكثير في قدرتها على تغيير الجو السائد.

    تجد هذا الأمر واضحًا في نوعية وحجم المخرجات الفنية بيننا وبين الإنتاج المصري على سبيل المثال. راقب المسلسلات المصرية مقابل الخليجية، الأغاني المصرية ضد الأغاني الخليجية، كُتب خواطر شباب الخليج الجياشة ضد الكُتب الساخرة، وطبعًا قد أذكرك على تأمل الإعلانات بكل أشكالها وقنواتها المختلفة واختلافها الجوهري.

    عن المنظور..

    دائمًا ما يكون هناك خيار ضيق للشخص في تناوله لأزماته، ولعل من الأجدى له أن يحاول استكشاف الزاوية خفيفة الظل والتهكمية على الاستجابة والانجراف وراء المشاعر السلبية.

    خذ مثلًا..

    إن أخبرتك بأن شخصًا ما قد سُجِن وحُقق معه قبل ثلاثين سنة لأي سبب كان، وقد قرر أن يوثق تجربته في كتاب أو مقالة طويلة، كيف سيكون محتواها؟

    إليك موقف حصل في عام ١٩٥٨م في مصر، حيث التم ستين سجينًا من فئات مختلفة في باحة خارجية في جو حار، يقفون على شكل طابور، كان أحدهم الكاتب المخضرم محمود السعدني الذي يقف معهم دون أن يعرف حقيقًة سبب وجوده في هذا المكان، ليحكي ما حصل في كتابه (الطريق إلى زمش):

    «كان يجلس في الصف الذي أمامنا مباشرة أربعة أشخاص يرتدون الجلابيب، أحدهم كان مضروبا بشدة ودمه مجفف على وجهه ورأسه، وكان زميله في الحديد رجلا عجوزًا عرفنا فيما بعد أنه رئيس نقابة في كفر الدوار، أما الاثنان الآخران فقد كانا في سن الشباب، كان أحدهما طويلا بشكل ملحوظ وكان الآخر أقصر منه بقليل، وكان الطويل يبكي باستمرار وبصوت عال، وشعر أحمد رشدي صالح بالضيق من بكاء الرجل الطويل ونهره بحزم وطلب منه أن يكف عن البكاء قائلا له: يا بني عيب عليك تبقى طويل كده وتقعد تعيط.

    ولوى الشاب عنقه نحونا وقال لرشدي صالح: واللـه يا سعادة البيه أنا ما عملت أي حاجة وردّ عليه رشدى صالح قائلا: أنت بتقوللي أنا، ابقى قول لهم لما يسألوك ودلوقتي بطل عياط وبلاش توجع دماغنا إحنا مش ناقصين، وكف الشاب عن البكاء ومسح دموعه بطرف جلبابه، ثم التفت إلى رشدي صالح وقال له: إحنا هانخرج إمتى يا سعادة البيه؟ ورد عليه رشدي صالح بغضب: ماحنا بره أهه، انتظر لما نخش جوه وبعدين اسألهم هانخرج إمتى.»

    ماذا إن قلت لك إن كل هذه التجربة المأساوية كلها كانت قد وثقت بسخرية، كادت تيقظ البيت!

    كان الدرس غير المباشر من قراءتي لمثل هذه النصوص الساخرة مؤخرًا، هو المحاولة المستمرة لعدم التجاوب مع الأزمات والانجراف وتأمل التعبير عنها بسخرية، فدائمًا ما يكون هناك متّسع لخفة الدم. وهنا تظهر غلبة العقل على القلب، أو كما يقول جان رساين «الحياة كوميديا لمن يفكرون، ومأساوية لأولئك الذين يشعرون».

    كان الله في عون الجميع.

  • عن الوِحدة

    المنزل (نقصد في معناه باللغة الإنجليزية Home ولا نقصد البيت House): هو المكان الذي نشعر فيه بالانتماء.

    الوِحدة هي عكس الإحساس بالانتماء.

    قد يكون العمل الذي نحبه منزلًا، الرفقة التي نحبها منزلًا، المدينة التي نعشقها، الفريق المفضل، الحبيب، أو الصديق.

    المنزل هو المكان الذي نكون فيه على سجيتنا، أو على طبيعتنا بشكل كبير. والأهم إحساسنا شبه المطلق بالراحة معه.

    المنزل: وربما يكون أقرب تأويل له هو السكن؛ من السُكنة.

    «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا …» (الروم ٢١).

    الوِحدة: هي الإحساس بعدم الانتماء. بغض النظر عن المكان الفيزيائي أو الأشخاص المحيطين بنا.

    قد تكون الوٍحدة متعلقة بأمر محدد نعيشه، وليست حالة كاملة في كل جوانب الحياة، كأن يقول أحدهم «أشعر أنني وحيد في العمل» أو «رغم وجود الأهل والأصدقاء إلا أنني أشعر بالوِحدة».

    «في كل مجتمع أقابله، ألتقي بأُناس يشعرون بالوِحدة على الرغم من وجود سقف فوق رؤوسهم. ربما ما يحتاجه الأشخاص الذين يشعرون بالوحدة والأشخاص الذين يعانون من التشرد هو منزل مع بشر آخرين يحبونهم ويحتاجون إليها، ومعرفة أنهم يحتاجون إليها في المجتمعات التي تهتم بهم. هذه ليست أجندة سياسة. هذا اتهام للحياة الحديثة.» كما يصف ميرثي.

    في الثمانينيات، تم تغيير مُسمى «فقراء» على الأشخاص الموجودين في الشارع إلى «مُشرّدين»، كما وصفت الباحثة والكاتبة جيل ليپور، وقد علّقت على الدكتور ڤيڤيك ميرثي (صاحب الاقتباس السابق) بأنه كان دائمًا ما يخلط في وصفه بين «الوحيد» وبين «المشرّد» في حين أننا نتوقع بأن هذا الخلط ليس سقطة بقدر ما هو إسقاط على تشابه المشاعر بين الحالتين. فالوحيد لا يشعر بانتماء رغم وجود الأشخاص، بينما المشرد لا يملك ما يشعره بالانتماء.

    «الوحدة مصطلح رائج، ومثل جميع المصطلحات الرائجة، فهي غطاء لجميع أنواع الأشياء التي يفضل معظم الناس عدم تسميتها وليس لديهم فكرة عن كيفية إصلاحها. يحب الكثير من الناس أن يكونوا بمفردهم. أنا نفسي أحب أن أكون وحدي. لكن العزلة والخصوصية هي الأشياء التي أحبها، وهي تختلف عن الوحدة، وهي الأمر الذي أكرهه. الوحدة هي حالة من الأزمة العميقة…» تكمل ليپور في وصفها.

    أكثر ما استوقفني في قراءتي لمفهومي العُزلة والوِحدة كان جدال الباحث «كاكيوپو» على لسان ليبور:

    «جسمك يفسِّر حالته عندما يكون وحيدًا أو عندما يكون بمفرده، أو عندما يكون مع الغرباء، على أنه حالة طارئة … نتنفس وتدق قلوبنا بسرعة، يرتفع ضغط الدم، لا ننام. نتصرف بالخوف والدفاع بشكل ذاتي، وكل ذلك يبعد الأشخاص الذين قد يرغبون بالفعل في المساعدة، ويميلون إلى منع الأشخاص المنعزلين من فعل ما سيفيدهم أكثر: وهو التواصل مع الآخرين.»

    تقول الخلاصة: عندما يشعر الإنسان بالوِحدة، فإنه يميل إلى الانعزال أكثر من ميله إلى التواصل مع الآخرين، وهو عكس ما يحتاجه. يصاحب الإحساس بالوحدة الاكتئاب، والأفكار المجنونة، والأحاسيس السلبية.. ومنها فقد الاسترشاد تجاه اتخاذ قرارات حكيمة. ويصبح الإنسان خائفًا، وبالتالي يزداد حس التخبط عنده.

    الانعزال، دائمًا ما يكون شيئًا اختياري، وهو على الأغلب أمرٌ صحي بين الحين والآخر.

    كان الله في عون الجميع.


    المرجع:

     Lepore, J., 2020. The History Of Loneliness. [online] The New Yorker. Available at: <https://www.newyorker.com/magazine/2020/04/06/the-history-of-loneliness> [Accessed 15 April 2020].

  • لماذا تعتبر متابعة المؤثرين مضيعة للوقت؟

    هناك مقامين لأي فنان هذا العالم، المقام المهني: والذي يخرج به أمام الآخرين من خلال انتاجاته (ظهوره في فيلم، أغنية، مسرحية، مسلسل. ومن خلال أعماله: كتاباته، لوحاته، منحوتاته موسيقاه، إلخ.)

    وهناك المقام الشخصي (أو الفنان بصفته الشخصية دون مؤثرات): كظهوره على قنوات التواصل الاجتماعي وتصويره ليومياته، لقاءاته مع جمهوره على أرض الواقع، انتشار صوره من خلال الصحفيين المتلصصين «الپاباراتزي»، إلخ.

    يجلس المخرج وودي آلن، ٨٤ عام، على آلته الكاتبة في تمام الساعة الثامنة صباحًا ليكتب جزءً من نص فيلمه القادم حتى الثانية عشر ظهرًا. ويعلق على ذلك «٨٠٪ من الإنجاز يكمن في الظهور للقيام بالعمل». يكمل بعدها شؤون حياته. يستيقظ في اليوم التالي ليكمل ما كتبه في اليوم الأول، يكرر الفعلة في اليوم الذي بعده، واليوم الذي يليه.. ثم الذي يليه، ثم الذي يليه.

    تستغرق منه كتابة نص الفيلم من ثلاثة إلى ستة أشهر، ينتهي من النص، يبدأ في اليوم التالي مباشرًة بالعمل على نص الفيلم التالي. وفي تلك الأثناء يقوم بالشروع باتصالاته لإخراج الفيلم الذي أتمم كتابته. على الأغلب سيكلم أحد المنتجين ويحاول إقناعه بقصة أو فكرة الفيلم ليموله، ثم سيتصل بالممثلة سكارليت جوهانسون، برادلي كوپر، بينيلوبي كروز، جينيفر لورنس، أوين ويلسون وغيرهم. سيشرح لكل ممثل منهم (إن كان متاحًا ومقتنعًا بالدور) مهامه وصفات شخصيته التي سيمثلها. وقد أتخيل أنه سيتواصل مع الفنيين كونه المخرج.. فنيي الإضاءة، فنيي الكاميرات، مهندسي الصوت، المنتج المنفذ، ملحنين أو ثلاثة، أخصائية ملابس.. مسؤولة الحجوزات، مساعدة مخرج أو اثنينتين، شبكتين إعلامية أو ثلاثة.. والقائمة لا تنتهي.

    المخرج المخضرم مستمر على هذا الروتين منذ خمسين عامًَا. لديه طاولة صغيرة وآلة كاتبة اشتراها في الستينات، لا زال يكتب عليها حتى اليوم.. كانت الأداة لكل إنتاجاته، نصوص كوميديا، سيناريوهات، كُتب، وغيرها.

    وودي آلن ليس كاتب سيناريو ومخرج (وأحيانًا ممثل) فحسب، إنما عازف جاز من الطراز الأول، وستاند أب كوميدي، ورجل كسول. حصل على واحد وستين ترشّح لجوائز عالمية لأفلامه، منها ثلاث وعشرون ترشح «أكاديمي أوورد» فاز بأربعة منها. كان بالقوة يحضر لمناسبات التتويج، لأن ظهوره فيها واستلامه للجائزة -كما يعتقد- ليس بتلك الأهمية أو الضرورة.

    أتحدث هنا عن شخص صرف جهود كبيرة على كتابة وإخراج عشرات الأفلام السينمائية طوال خمسين سنة ماضية. يراجع مع فريق عمله مرة واثنان وثلاثة وعشر مرات فيلمه قبل أن يخرج للجمهور.

    يركز كل جهوده على إنتاج العمل، ويهمل الأضواء ووقت استلام الجوائز.. يفعل بالضبط عكس ما نفعله تمامًا.

    هذا مثال واحد. قد يساعدك على تخيُل كيف يخرج مغنيك المفضل بأغانيه للجمهور. قائمة طويلة من الالتزامات وفرق العمل، التي تصرف ساعات وساعات من وقتها لكي تحاول أن تبهرك أو تسليك أو تغير حياتك.

    لا يستطيع الكاتب الذي يحترم نفسه وقارئه مثلًا بأن يخرج بكتاب متكامل في أيام قليلة. فالأمر يحتاج إلى صبر وانضباط لكي ينجز النص كخطوة أولى، وبعد النص تأتي عدة مراحل أخرى، كالتفاوض مع دور النشر وإقناعهم، وإيجاد أفضل مدقق لغوي ومصمم لغلاف الكتاب، وطبعًا عشرات المراجعات للتأكد من خلو النص من الأخطاء (ولا يخلو).

    إن تابعت أحد أبطالك أو أحد فنانيك المفضلين على التواصل الاجتماعي (في مقامهم الشخصي)، فقد تتفاجئ بأنهم مجرد بشر عاديين يشاركون يومياتهم التي لن تضيف لأحد أي قيمة، بل قد تجدهم تافهين إلى حدٍ ما! ولا يجب عليك استنكار هذا الأمر، فهم أصبحوا فنانين بسبب المشقة التي صرفوها في أعمالهم وليس بسبب تواجدهم على انستجرام وتويتر وفيسبوك. أو كما يقول التسويقي المعروف سيث جودين متهكمًا «إن أشهر لوحة على الإنترنت هي للموناليزا.. الموناليزا ليس لديها حساب في انستجرام». وجود الفنانين الناجحين على قنوات التواصل بمثابة الـ «وسيلة» «لغاية». وجودهم قد يكون للتنفيس أو للتسلية المحضة، أو للهروب من جدية الأعمال التي صرفوا أوقاتًا كبيرة عليها.. وقد تكون حساباتهم موجودة هكذا فقط دون سبب يهمك.

    إن قررت اليوم أن تحذف حساب كريستسانو رونالدو (الأكثر متابعة في العالم) من الانستجرام بمتابعيه المئتين وإحدى عشر مليون، سوف لن ينقص من إنجازاته شيء، ولن ينقص هدف واحد سجّله في تاريخ، وبالطبع ستبقى الكرات الذهبية وكأس أوروبا محفورًا عليها اسمه. وعلى الأغلب، لا يود المعجبين متابعة وجباته وسفرياته وحبيبته وهي مرتمية في حضنه، بقدر حرصهم على متابعة مبارياته وأهدافه التي تخطف الألباب. بل أنك قد لا تلاحظ أنه اختفى من التواصل الاجتماعي!

    مثل هذه الحسابات الضخمة تصبح إلى حدٍ كبير ملك المسوقين، وليس المؤثر نفسه.

    شاهدي أن قيمة الكاتب الحقيقية في كتابه. والمخرج في فيلمه. والطّباخ في أكلته. والمغني في أغنيته. والمعلّم في إخلاصه لطلابه. واللاعب داخل الملعب. قيمتهم الحقيقية في المجهود الذي يصرفونه خلف الكواليس وقبل الظهور، فإن كان الجهد في الظهور أكثر من قيمة المجهود قبله، فستكون النتيجة بائسة، محزنة وسطحية ومؤقتة.

    ما يحاول المؤثرين فعله في مجتمعاتنا هي تحويل يومياتهم إلى فنون.

    اليوميات لا تمر على فلاتر ومدققين وجهود مكثفة، ليس هناك أحد يطّلع على السخافات والأخطاء سوى المؤثر وحده. وسرعة الانتشار تنقلب أحيانًا مثل النار على الهشيم.. تأكل كل شيء تم بناءه.

    اليوميات -حتى وإن أكسبت صاحبها الكثير من المتابعين- هي لن تعطي صاحبها ذلك الزخم الذي يستطيع من خلاله أن يغير حياة الآخرين، فإن اختفى المؤثر أو المشهور.. قد لا يتذكره أحد. تعطيه ذلك الوهم بأهميته، وهو مسكين. أما الفنون والأعمال الحقيقية فهي تبقى، وقيمتها تستمر بقدر ما صُرِف عليها من مجهود.

    لا قيمة لستيفن كينج وعمرو دياب في نطنطاتهم المستمرة على التواصل الاجتماعي. قيمة الأول هناك، داخل غرفته وهو يكتب ويرسم لنا خيالاتنا.. وقيمة الثاني في الذكريات عندما يغنيها.. هناك داخل الاستوديو.

    كان الله في عون الجميع.

  • الإحباط خيار.. والحماس مبادرة

    المكالمة الجماعية مع الأهل والأصدقاء تحتاج إلى مبادرة. إن انتظرتهم، ستجدهم منكبين على أنفسهم.

    وهناك اقتراح: الخطوة الأولى هي أن تنشئ مجموعة على برنامجك المفضل والمُتاح لدى المقرّبين. الخطوة الثانية، أن تُكلمهم وتقحمهم في هذه المكالمة. الخطوة الثالثة أن تستحضر الاستمتاع بها. الخطوة الرابعة كرر هذه المحاولة كل يوم أو يومين.

    ستكتشف فجأة أن البشر فعلًا لم يُخلقوا لينعزلوا؛ لكنهُم خلقوا مع قابلية عالية للاستجابة لكل ظرف. والظروف الحالية سلبية، والاستجابة لها خيار، وللأسف هو الخيار الأسهل.

    كرر الخطوات مع الرياضة، والأكل، والأمور المؤجلة.. وتجربة الأمور التي لم تجربها. وإن مشى الحال، قم بالخطوة الرابعة.

    الحماس مبادرة. يصبح بعدها الاستمرار خيار.

    كان الله في عون الجميع.

  • بليغ

    عام ٢٠٠٧م خرجت أنغام بألبوم كان من ضمن أغانيه أغنية استثنائية في لحنها ومختلفة تمامًا عمّا غنته أنغام في مسيرتها. أدمنتها لفترة، ولا زلت معجبًا بها حتى اليوم، اسمها «أشكي لمين وأحكي لمين».

    قبل يومين وبعد ثلاثة عشر سنة من صدور تلك الأغنية، قرأت لدى الكاتب اللطيف عمر طاهر، في إحدى هوامش كتاب «من علم عبد الناصر شرب السجائر؟» تحت العنوان الفرعي «من هو مثلك الأعلى ككاتب؟» الفقرة التالية والتي كانت بمثابة الصدمة الظريفة:

    «أشكي لمين التي غناها منير، معجزة…» دقيقة! من هو منير؟

    ويستكمل الكاتب: «بليغ صاحب الكلمات واللحن صنع بالمرح والبهجة فستانًا لجسد حزين يقول: «أشكي لمين وأحكي لمين دنيا بتلعب بينا؟»، التناقض الذي ينير التجربة، واقعية «بُكرة الزمان يسرق شبابنا»، مع استبسال «بالحب ننسى كل اللي فاتنا»، وسحر التسليم «إيه راح ناخد منها إيه». أغنية تقول كيف يمكن للواحد أن يصادق أحزانه ويقف يتأمل معها فتارين السكينة! هذه خلطة لا تنتمي إلى الموسيقى بقدر انتمائها إلى الواقعية السحرية.»

    توقفت للحظات وسألت نفسي؛ ما هذا الجُنان؟ أنا أعرف كلمات هذه الأغنية القديمة لأنغام تمامًا، ولكن من هو منير؟ .. وما دخل بليغ حمدي بها؟

    اتضح بعد بضعة دقائق من البحث، أن الأغنية في الأساس كانت للفنان القدير محمد منير وقد خرجت عام ١٩٨١م، وهي من ألحان العبقري بليغ حمدي وكلمات عبد الرحيم منصور.

    برَرَت هذه المعلومة أمرين مهمين بالنسبة لي الأول: وهو أن جمال الأغنية وإعجابي بها وقتها لم يكن سببه الآخرين والعقل الجمعي وشعبية بليغ حمدي المعروفة، فقد سمعتها للمرة الأولى عندما كنت لوحدي في السيارة وقلت لنفسي: فعلًا هذه الأغنية رائعة واستثنائية بالنسبة لأنغام! واتضح لي قبل يومين أنها كانت لبليغ حمدي ومحمد منير منذ أربعين سنة.

    الأمر الثاني أنني استذكرت أن هذه الحالة تكررت عليَ كثيرًا، فقد توقفت عند عدة أغاني وأفلام وتعجّبت من جمالهم كثيرًا ليتبين لي أنها نتاج فنانين عظماء لم أكن أعرف أنها لهم منذ البداية.

    ولا زلت عند القناعة التي تقول إن الفنون عندما تُصنع يجب أن يُستثمر في الجهد خلفها أكثر من الاستثمار في تسويقها (عكس ما نفعله نحن الفنانين الشباب هذه الأيام) لأن العمل سيبقى، ونطنطاتنا في كل مكان لنخبر الآخرين أننا عملنا ستختفي. وهنا الفرق ربما بين العمل السطحي والعمل العميق الذي حاولت الإشارة إليه بتفصيل ممل في كتاب وهم الإنجاز.

    نفس قصة هذه الأغنية تكررت عليَ عندما سمعت لأول مرة في حياتي أغنية «يا مسافر وحدك وفايتني، ليه تبعد عني وتشغلني..» واكتشفت بعد أن ذُهِلت من صوت مغنيها وأداءها وكلماتها أنها لعبد الوهاب.. وقد غنّاها عام ١٩٣٨م (قبل ٨٢ سنة) تصوّر!

    كان الله في عون الجميع.

  • ١٩٨٠ بين جيلين كتاب جديد لهتون قاضي

    من التحديات الراهنة في هذه الفترة، القدرة على كتابة محتوى عميق وترفيهي، يساهم بتغيير حياة شخصٍ ما في مكانً ما.. ونفسيته أيضًا. فنيتفليكس موجود على الرف ينتظر. ومجموعة التواصل الاجتماعي خلفه.

    ميزة الكُتب في ظل هذا التخمة الترفيهية، أنها لا تخرج إلا بعد تمحيص كاتبها ومرورها على مدقق لغوي أو مُحرّر، إضافةً إلى حملها لحِزمة لا متناهية من الأفكار والمشاعر (إن صدق كُتّابها)، فهي إثراء لا يكلف صاحبه سوى الوقت. ومن ينتهي من قراءة كتاب فهو من زاوية العمق العقلي أفضل طبعًا ممن شاهد مسلسلًا كاملاً.

    مسؤولية الكاتب كبيرة، ومهمة القارئ أصعب.

    هنا تقديمي الذي تشرفت به لكتاب الغالية هتون قاضي (١٩٨٠ بين جيلين)، والذي استمتعت جدًا بقراءته. وآمل بصدق أن لا تحرموا أنفسكم من متعته.

    تقديم:

    هناك هدفين -لا ثالث لهما- يدفع أي شخص ليمسك كتابًا بين يديه؛ إما البحث عن معرفة أو للبحث عن الترفيه. يتحقق كلا الهدفين إن اطّلعنا على قصة أُغرِقت بالصدق في البوح والصراحة التي تقود إلى الجرأة التي تعبّر أحيانًا نيابة عنّا نحن القراء. تصبح تجربة القراءة في قمة إثرائها عندما لا يخشى الكاتب من ماضيه، وبالطبع إن كان هو من الأساس وقبلها متسلّحًا بعلم ومعرفة ووعي كبير.

    المعلومات عندما تكون مجرّدة فهي معلومة.. عقلانية.. لا هدف لها لإسعادك. والقصص الخيالية كالروايات قد لا يهمها جدًا أن تعطيك معلومة بقدر إعطائك فرصة للتخيل والترفيه المجرد.

    إذًا.. ماذا أود أن أقول؟

    إن سألت أيًا من أبناء المجتمع الحجازي عن المكيين، فإن أول ما يتبادر للذهن هو قوة الشخصية والحضور والاعتزاز بالنفس وأحيانًا.. الصوت العالي. وفي هذا الكتاب بين يديك، قررت هتون أن تقود صفات السيدة المكية المعروفة إلى منحنًا آخر تمامًا.. خفة ظِل ومتعة متناهية وحكايات تستحق أن تصرف ليالٍ عليها. والمضحك في تجربتي معها أنني استطعت أن ألتزم بالذهاب إلى النادي طوال أيام، ليس حبًا فيه أو حرصًا على صحتي، بقدر تذكّري أن الساعة القادمة فيه ستكون بصحبة مسودة الكتاب الذي تشرفت بالاطلاع عليه قبلكم -من حسن الحظ- على جهاز «الآيباد» والدراجة، وها هو الآن خرج ليكون بين يديكم لتهيموا به.

    في المجتمعات الغربية، يأخذ الناس كلام السياسيين على محمل الهزل، ويأخذون كلام الكوميديين على محمل الجد كما يعتقد الكاتب «جارسون أو تول». ولا أجد هنا في هذا الكتاب سوى حياة حقيقية جدية وسط قالب سيجعلك تبتسم طيلة الوقت كما كان متوقعًا من صاحبته المبدعة واللطيفة هتون قاضي.

    وجدت هذا الكتاب إحدى التُحف الفنية التي ستخرج إلينا في هذا العام، ولا أُخفي أنني لا أحب أن أحرج نفسي أمام زملائي وزميلاتي الكُتّاب بالرفض عندما يتفضلون بلطفهم لأكتب تعليقًا أو تقديمًا لهم في مشاريعهم الكتابية. إلا أن هذا الكتاب حالة مختلفة.. فأنا من ركضت خلفه لأضع اسمي بالقرب من العزيزة هتون وجمال كتابتها.

    فمجاورة السعيد سعادة.. وشهادتي بعد هذه الكلمات وإن كانت مجروحة.. فإنني أتمنى من قلبي أن تستمتع بقراءته، كما استمتعت به.

    أحمد حسن مشرف

    كاتب ومدون، مؤلف كتاب ثورة الفن: كيف يعمل الفنان وكيف يعمل الآخرون

    فبراير ٢٠٢٠م – جدة

  • آخر ما يبحث عنه الآباء هذه الأيام

    .. هو طفل جديد.

    حماس التدريس اليومي، يذكرك بأن الحياة جميلة بعيدًا عن الالتصاق الزائد.

    والمفارقة المضحكة كانت في هذا التقرير الذي يشرح بتفصيل لا بأس به بأن «الواقيات الجنسية شبه ستختفي من سطح الكرة الأرضية إن استمر الوضع على ما هو عليه.»

    مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ.

    إلا أن إحدى قراءاتي الجديدة للعزلة؛ هي أن المتضادات قد تلتقي في مثل هذه الظروف.

    خذ مثلًا: هل تعلم ما هو أحد أهم أحلام الكاتب غير المعلنة؟

    أن يعمل من منزله طيلة الوقت.

    وها هم كل كُتاب الكرة الأرضية في المنزل.. هل تتوقع منهم أن ينشغلوا بكتابة نص عليه القيمة بإنتاجية أكبر؟ الإجابة في الحقيقة لا.. أو ربما، لكن التحدي هو في وجود رفقاء كثيرين مع فكرة العمل من المنزل.

    أصارع الوقت وأجري مثل المجانين لأنتهي من مقالة اليوم أو الكلمات المحددة في أحد المشاريع الكتابية، قبل دخول إحدى بناتي علي في الغرفة. المقاطعة أكبر تحدي يواجه أي فنان في يومه.

    هل تعلم ماهي أحد أسباب السمنة في هذا العالم؟

    نعم، أصبت، أكل السوق.. وهو أيضًا أحد أسباب الصرف غير المبررة.

    هل تتوقع أن الأوزان ستبقى على ما هي عليه بعيدًا عن أكل السوق؟ .. الله كريم.

    الآن أكل السوق قد يكون هو الحل للابتعاد عن السمنة! هل تعتقد ذلك؟

    في الحقيقة نسبة الحرية مع هذا العزل أكبر بكثير مما يتخيله الإنسان، وهي السبب خلف التكاسل والطاقة السلبية. فمع الانشغال والمواعيد والأصدقاء، دائمًا هناك خطوة قادمة مترقبة لك خلال يومك. أما الآن، فاليوم مشابه تمامًا للغد.. وإن تأخرت في أي شيء، سوف لن يعاتبك أحد.

    الجدول فارغ.. والخطط كلها ملغية.. والكل في حالة ترقّب. وأنت تعلم تمامًا أنه من المفترض لك أن تنشغل في الأمور المؤجلة منذ وقت طويل، ولكنك لا تفعل ذلك.

    أنت حر.. حر طليق بشكل من الأشكال، وهذا ما يسبب بؤسك يا عزيزي.

    كان الله في عون الجميع.

زر الذهاب إلى الأعلى