الشهر: يناير 2021

  • لماذا يجب اعتبار عادة القراءة واجب أخلاقي؟

    عندما كان جورج راڤلينج مدرب كرة السلة المعروف صغيرًا في السن؛ سألته جدّته سؤالًا يعتقد أنه غير حياته للأبد: «لماذا كان قديمًا أصحاب المنزل يخبؤون أموالهم بين صفحات الكُتب؟».

    بعدما ابدى عدم معرفته، أخبرته «لأنهم يعرفون بأن العبيد الذين يعملون في المنزل لن يفتحوها».

    هذه القصة – وإن افترضنا رمزيتها – والتي قادت المدرب وهو في أواسط الثمانين من عمره ليصبح شديد التعلق بالكُتب ومشاركة قراءاته المستمرة على موقعه مع جمهوره، إلا أن لها جانبًا مظلم آخر. فلم يكن تعليم العبيد القراءة والكتابة في الولايات المتحدة مرفوضًا اجتماعيًا فحسب، بل كان غير قانوني في الفترة ما قبل ١٨٣٠م.

    «هناك سبب وجيه لهذا الأمر» كما يعتقد رايان هوليدي «وهناك سبب وجيه يجعل كل المحتلين يحرصون على حرق الكُتب عندما يدخلون أي مدينة».

    فإلى جانب ما اعتدنا سماعه عن قيمة وفائدة القراءة كعادة يفترض بها منافسة عادة اضطرارية قديمة وغير مستحب كالمذاكرة، إلا أنها لا تزال إحدى العادات التي تُعطي «أفضل قيمة مقابل السعر / الوقت». تتشابه مع الرياضة، والجلوس ساعات مع قدوتنا. ومهما ارتفع سعر الكُتب، تظل رخيصة إن قارّنا سعة مردودها الثقافي مقابل المال المدفوع من قِبل الأفراد والحكومات على التعليم الأكاديمي.

    تظل الكُتب تمثّل الوسط الذي يُخزّن فيه كل تفاصيل العلوم والمعرفة من جيل لجيل ومن مثقف لمثقف ومن أكاديمي لأكاديمي ومن طُلاب لمدرسين، وهي الوسط الذي خُزن فيه كل تفاصيل التاريخ التي نعرفها في يومنا هذا.

    إلا أن شيء كبير يعيب الكُتب وعادة القراءة بشكل عام: الوقت.

    يفتح الطالب الكتاب أو البحث، ليس حبًا بقدر ما هي «مهمة عمل» يجب أن تُنجز.

    وعندما نرغب نحن البالغين العاقلين بجعل عادة القراءة جزءً من حياتنا، فإننا لا نستطيع ذلك، لأنها غير مربوطة بمهمة عمل رسمية، ولأنها تحتاج إلى الكثير من الوقت، وتحتاج لبعض التضحيات الكبيرة في حياتنا اليومية: مثل تطنيش التلفزيون أو الجوال، ومحاولة الحصول على بعض التركيز.

    لا يستطيع أن يأخذ بنا المتحدثين والرفقاء يمينًا وشمالًا في موضوع صرفنا ساعات طوال بالقراءة عنه. نتحول تدريجيًا إلى شخصيات قوية، ولبقة، ومؤدبة، ومتحدثة، وبائعة إن كنّا قراء.

    نتحول إلى نُسخة أقوى من أنفسنا معها.

    بل ليس من العدل أن أعترض على فكرة أو نقاشًا بعنف وارتجال إن لم أُكلّف نفسي عناء القراءة عنه.

    وليس من العدل أن نكرر أخطاءنا في تربية من نحب بسبب عدم رغبتنا لقراءة مقالة أو كتاب يعلمنا كيف نتعامل مع مشاكلهم.

    ليس من العدل أن نخسر كل مرة أموالنا ولا نعرف كيف ندّخر، وهناك آلاف الكُتب والمقالات التي نجح مؤلفيها بشرحهم كيف صنعوا ما صنعوه في ثرواتهم.

    تصبح القراءة واجب أخلاقي عندما نعي تمامًا بأننا مستأمنون على عقولنا وأحباءنا ومستقبلنا. وعندما نعرف كيف نخلق سبيلًا لجعلها وسيلة ترفيه أكثر من كونها مهمة عمل.

    «لا أحب القراءة» أو «لا أجد نفسي فيها» أو «لا أستطيع التركيز» يستطيع أن يكتفي بقولها أي إنسان. أستطيع أيضًا أن أكتفي بقول «لا أستطيع أن أُنقِص وزني» أو «لا أستطيع أن أقلع عن التدخين» أو «لا أستطيع أن أستيقظ مبكرًا».

    كلنا نستطيع أن نكتفي بقول ما نريد. لأنا الكلام دومًا أسهل من الفعل، والاستسلام عمومًا أسهل من المثابرة. والاكتفاء بالقول أسهل من المحاولة.

    يحكي المستثمر المعروف وورن بافيت في أكثر من موضع بأن أحد أهم العادات التي صنعت منه رجل في قمة نجاحه قدرته على أن يُصبح «آلة تعلم» بصرفه من خمس لست ساعات في القراءة يوميًا.

    مثله أيضًا المستثمر ورائد الأعمال المعروف مارك كيوبن الذي يقضي يوميًا ثلاث ساعات في القراءة. وإيلون مسك، وبيل جيتس.

    بل وحتى الملك، لم يُعرف عنه حرصه على إعطاء نصيحة للشباب بقدر حرصه على تشجيعهم بأن يقرأوا «القراءة.. القراءة.. القراءة.. إن قرأ الإنسان ثم قرأ سيتعود عليها، وسيتعلم عن شتّى البحوث والمجالات، ولذلك أنصح أبناءنا بأن يكرموا القراءة ويعمّقوها، حتى تتسع أفكارهم..»

    ويضيف.. «الإنسان قد يقرأ كتاب في أيام، لكن الذي كتبه قد قضى وقت طويلًا في كتابته وتجميعه لكي نستفيد منه».

    تصبح القراءة واجبًا أخلاقي إن استوعبنا أن عدم القراءة خيار، تمامًا مثل خيار أن ننزل إلى المكتبة ونشتري الكُتب لكي نمسك بها ونقرأها، فغير القارئ وغير المطلع يقترب كل يوم من الذي لا يملك قدرة على القراءة.


    [أُفكر بأن أقوم بعمل ڤيديو (لايف) لأول مرة، عن هذا الموضوع ولتغطية جوانبه الأخرى، سأبلغكم].

  • الناجحون لا يعملون أكثر من غيرهم

    العُمال البسطاء، والخدم، وعاملي المناجم، والكثير من المغتربين عن أهاليهم، هم من يعملون بجهد، إن تكلمنا عنه كنسبة وتناسب.

    بالنسبة للناجحين، هم فقط لا يضيعون وقتهم في أمور سيعرفون لاحقًا أنها كانت مضيعة للوقت.

    لسيث جودين كتاب عظيم في هذا الشأن (The Dip)، يُشجع فيه القارئ للإجابة على سؤال: متى يجب أن يترك ومتى يجب أن يستمر، فالناجحين يعرفون تمامًا متى ينسحبون ومتى يُكملون.

    أما من يقول لك بأن الانسحاب للضعفاء، فهو إنسان قد يملك احتمالية أن يكون مغفلًا.

    أو كما قالت بريانا ويست:

    «الأشخاص الناجحون لا يعملون بجهد (تلك الكلمة «بجهد» لها دلالة خاطئة).

    الناجحون لا يبذلون الجهد في أمور من الواضح أن نهاياتها ميتة.

    كما أنهم لا يمارسون ما هو غير قابل للتطبيق أو غير فعّال أو ببساطة لا ينجح. إنهم يعملون باستمرار حيث يرون معظم النتائج، والسبب في قدرتهم على العمل كثيرًا – عادة أكثر بكثير من أقرانهم – هو أن العمل يأتي إليهم بشكل طبيعي إلى حد ما. إذا لم يحصل هذا الأمر، فسيكونون منهكين ومرهقين ويتركون العمل بأقل قدر من النتائج».

    شخصيًا، أعتبر أن مهمة الإنسان في حياته العملية هي المحاولة بأقصى درجة لكي يصل إلى المعادلة التي يُصبح فيها تأدية العمل اليومي أشبه ما يكون أمرٌ طبيعي، مثله مثلما يمارس الفنان فنه، لا يستأذِن من أحد قبل الجلوس على لوحته، أو كتابة مقالته، أو.. أو..

    هو أمرٌ طبيعي يقوم به، لأنه أصبح أمرًا طبيعي.

    ينحصر الضغط ليولد إحساس الانضباط في حياته فقط، وليس ليعيش إحساس الذنب بعدم الإنجاز. والأهم، أن هذا الانضباط لا يسبب له نوعًا من التعاسة.

    الحياة قصيرة.

  • النتيجة لا تهم؛ ما تحاول القيام به هذه اللحظة هو الأهم

    ما تحاول القيام به هذه اللحظة هو الشيء الوحيد الذي تملك السيطرة عليه.

     لا تستطيع أن تقنع الجميع بأن يقرؤوا ما كتبت، أو أن يشاهدوا لوحتك، أو أن يسمعوا لمعزوفتك، أو الإنصات لفكرة مشروعك الجديدة.

    وإن أقنعتهم.. لا تستطيع أن تجبرهم على حُب ومتابعة ما تنجزه.

    الناس تميل فقط لمن يغير شيء ما في حياتها. نفسياتهم أو سلوكهم ربما.

    «إما أن تُضحكهم، أو تُلفت نظرهم لشيء حقيقي» كما قال صديق جوردن بيترسون له عندما وصف التركيبة التي تجعل الآخرين ينصتون لما يقوله.

    النتيجة هي ما تقوم به كل يوم. وليس ما ستراه لاحقًا.

    النتيجة هي رحلتك.. الرحلة التي وعدت نفسك بالسير فيها. وإن التزمت بوعدك، سيظهر من يشكرك لوجودك في هذه الحياة.

    النتيجة لا تهم، حاول أن تبذل جهدك فيما تفعله الآن، كل يوم. وسيحدث شيء كبير لاحقًا.

    أعدك.

  • لماذا من الصعب أن تكون مؤدبًا؟

    بعد أن قال «مرحبًا سيدي» في مساء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٠م، أردف قائلًا «كُنت فقط أود أن أقول لك عيد ميلادٍ وسنة سعيدة» بلكنة أفريقية أميركية فاخرة، يستقبلني بها هذا الفقير الجالس على جنب أمام متجر محطة «سيڤين إليڤين».

    تأملت حال الرجل وأنا آخذ أغراضي، وجدته من أسلوبه وجلسته نجمًا سينمائيًا مع وقف التنفيذ. من سوء الحظ بأن الكلمات المكتوبة لا تصف بدقة الأسلوب الملفت ونبرة الصوت التي وجدتها فيه. لا يبدو عليه أبدًا نقص المال إلا إن دققت قليلًا في ملابسه الرثّة، فهو جالس على الرصيف المرتفع بهدوء مُلفت واضعًا قدمه فوق الأُخرى، يدخن سيجارته بالحركة البطيئة، يستقبلني أنا وغيري بنفس الطريقة، يبدو عليه أنه في الخمسينات من العمر.

    موقف سبق تلك القصة بعامين عندما وصلت وحدي مساء أحد أيام مايو ٢٠١٨م لميامي لاستكشف المكان قبل استقرار أسرتي. استيقظت صباح اليوم التالي واتجهت لأحد فروع «متجر آبل» والذي كُنت قد حجزت فيه موعدًا وأنا في جدة. يقع المتجر في إحدى مولات مدينة «فورت لودارديل» البعيدة نسبيًا عني آنذاك، وعندما أوقفت السيارة في المواقف السُفلية ومن باب الاستعجال، قررت أن أسأل سيدة كبيرة في السن (صادف أيضًا أنها أميركية من أصول أفريقية) عن موقع المتجر داخل السوق. كانت تلك السيدة أول إنسان غريب ألتقي به وأتحدث معه رسميًا منذ وصولي:

    “Hey, my dear, I will walk you there. It will be an excellent chance for me to have such a handsome man walking with me in front of others.”

    «أهلًا عزيزي، سأقودك إلى المحل، وستكون فرصة ممتازة لي كي أمشي مع رجل وسيم مثلك أمام الآخرين».

    بالطبع لستُ وسيمًا، لكن كانت خفة الدم واللطف ملفتين جدًا لي، فأنا قادم من بيئة لا يرتاحون فيها النساء كثيرًا برد السلام على الرجال لأسباب واختلافات يطول شرحها هنا.

    اعتقدت بأن موقف هذه السيدة كان بمثابة «حظ المبتدئين» لي، وأصبح اعتقادي خاطئًا تمامًا فيما بعد، ولذلك ذكرت قصة رجل المحطة (الأقرب في التوقيت لليوم) مع السيدة التي قابلتني في زيارتي الأولى.

    كُنت محظوظًا في حياتي بالحصول على فرصة معاشرة الكثير من الجنسيات الأجنبية، بعضها معاشرة قريبة جدًا، وبعضها مجرد وقفات عابرة. وفي الحقيقة، كل من قابلتهم من جنسيات في حياتي في كفة، والإنسان الأميركي في كفة أخرى. لم أجد في حياتي أدبًا وخلقًا متناهيين في السلوك العام لشعب مثلهم.

    كنت محظوظًا أيضًا بزيارة ما يقارب عشر ولايات. الألفاظ الخلوقة والأدب العام يكاد يكون فيها جميعًا دون مبالغة. وللأحبة الذين يعرفون الولايات المتحدة عن كثب سيوافقونني الرأي على الأغلب.

    أصبحت أحرص على خفض السماعات من أُذني كل يوم عندما أمارس هواية المشي عند كل لحظة التقاء بشخص، فعلى الأغلب سيسلمون سلامًا حار مع سؤال «How is it going?»  (كيف الحال؟).

    شكرًا، أسف، مرحبًا..  (كمعدّل يومي) سمعتها أكثر مرة في حياتي في هذه البلد.

    على كل حال ليس هذا شاهدي، فقد أستطيع أن أكتب عشر صفحات تالية عن المواقف والأخلاق العامة التي يتميز بها الأميركيين.. وعيوبهم طبعًا!

    إلا أنني أود اليوم محاولة الإجابة على السؤال العام: لماذا من الصعب أن تكون مؤدبًا؟

    الإجابة المختصرة: لأن التأدب يحتاج إلى جهد.

    فمن الأسهل لك إن تضايقت بأن تهزئ موظف خدمة العملاء، وموظف التوصيل، والعمال البسطاء في تقصيرهم، وأن تمثّل أنك لم تراني، وأن تسير في طريقك دون أن تقف لأن تسأل عن حالي، وغيرها.

    ومن الصعب أن تستحضر التأدب ومراعاة الظروف، وأن تهدأ قليلًا.

    التأدب أصعب من قلة الأدب.

    «فشة الخلق» أسهل من استحضار الأدب واستجلاب الصبر والتأدب.

    التأدب يتطلب قدرًا عالٍ من الانضباط في استخدام مفردات مميزة ولطيفة، كأن توجّه الكلام للكبير في السن بـ «أنتم، حضرتك، حضرتكم»، بدلًا من «اسمه حاف» أو «إنتَ» أو «أبوك» (… بدلًا من السيد الوالد أو أبو فلان، أو عم فلان).

    هذا الانضباط في الاستخدام يحتاج إلى ممارسة مستمرة، والممارسة لا تتحقق إن لم يتمرن الإنسان عليها من الطفولة، ولا تتركز في عقل الأطفال إلا إن كان المربين أصلًا مؤمنين إيمانًا صادق بما يُسمى «الذكاء العاطفي» و«الذكاء الاجتماعي».

    أختزل الذكاء العاطفي بأن أُفهِم المتلقي بأننا نعيش مع أُناس آخرين. ولذلك يجب أن نختار المفردات بعناية حماية لعواطف الجميع.

    وأختزل الذكاء الاجتماعي في إفهام المتلقي بأنك إن كنت ذكيًا اجتماعيًا أصلًا، فستكون حياتك مع الآخرين أكثر مرونة وسهولة، وسيسهل عليهم وعليك حصولكم على ما تريدونه من بعض.

    شخصيًا أعتبر أن طبيعة الإنسان (العادي) تميل «للحيونة» أكثر منها للإنسانية المطلقة، فالإنسانية المطلقة تستدعي الكثير من الجهد الذي قلناه من ناحية، وصعوبة إعمال العقل والعاطفة سويًا بأقصى درجاتهم لكي تُخرِج شفاهنا كلمات لطيفة وحساسة وظريفة للآخرين. أتحدث هنا عن الظروف العادية، ولم أشمل أوقات الزعل والخصام والتقصير.

    يهاجم الحيوان الآخرين عندما لا يشعر بالارتياح.

    يهاجم الإنسان الآخرين عندما لا يشعر بالارتياح.

    لا يهاجم الإنسان الآخرين إن كان حليمًا ومؤدبًا.

    يُسلم، ويرد السلام، ويشكر، ويعتذر، ويُسلّم، الإنسان المؤدب والحليم على لآخرين طيلة الوقت.

    عندما لا يشعر الإنسان بالارتياح ويهاجم الآخرين (أو لا يكون مؤدبًا) هذا لا يعني أنه على صواب. ولا يعني أنه يجب أن يُعذر بالضرورة.

    لماذا لا ترد الفتاة (أو الرجل) على السلام أو الشكر عندنا؟

    ببساطة لأنها لا تشعر بالارتياح، هي أو هو يشعرون بتهديد خفيف وغير معلن، وضف على ذلك، هي لم ترى كل من حولها يقابلون اللطف باللطف طيلة الوقت على فترات طويلة وممتدة مع الغرباء، ولم يقل لها أحد بأن استمرار استخدام المفردات غاية اللطف، تحتاج إلى تمرين. كما تمرن عليها الشعب الأميركي على ما يبدو منذ صغره.

    مهمتنا كمربيين تحتاج إلى بعض من الجهد الإضافي اليوم. بأن نعلمهم كيف يستحضرون الأدب والخُلق في تعاملاتهم، وبالنسبة لاختيار المفردات، لم أجد في حياتي أمرًا مساعدًا مثل الحرص على القراءة المنتظمة في حياتنا.

    [لا أعلم إن كان كلامي واضحًا اليوم، إلا إنني مؤخرًا بدأت أشعر بفجوة فِهم أخشى أن تزداد بيني وبين أحبتي من يقرأون لي].

    كان الله في عون الجميع.

  • درسٌ مُستفاد في ٢٠٢٠: الحال وإن كان سيتغير لا تنتظره

    هذه المقالة نُشرت على مدونات آراجيك.

    لا نحتاج للمزيد من الدراما لكي نصف ٢٠٢٠م، فكل إنسان كان يملك تحديات قبلها، وسيملك تحدياته المتجددة بعدها.

    إلا أن تحديات ذلك العام أظهرت ما لا نود إن يكون فينا، أو ما كان فينا ولا نود منه أن يظهر.

    عدد الاتصالات على ٩١١ في الولايات المتحدة ازداد بشكلٍ هائل، بسبب حالات العنف الأسري. وغيرها في الكثير من الدول. معظم من حاول الاتصال، كانوا يعلمون يقينًا أن تلك القشة التي ستقصم ظهرهم من المعنِّف كانت ستأتيهم في يوم من الأيام. إلا أنهم فضّلوا الانتظار، والابتعاد عن رؤية المشكلة ومعالجتها، ولا نقول فضّلوا الصبر، لأن الصبر هو قدرة الإنسان على الاستجابة بشكل إيجابي وقت الأزمات.

    القُساة يزدادون قسوة وقت الأزمات. والطيبين تظهر طيبتهم أكثر. عندما نحتاجها.

    المثابرين لا يتوقفون عن البحث عن الحلول وعن التعلم وعن البحث عن الذات في وقت الأزمات، مهما شدّت الأزمات رباطها علينا. أعلم اليوم يقينًا أن شخصية الإنسان وتطوره لا يكونا إلا بالممارسة «فالحلم بالتحلّم.. والعلم بالتعلم» كما ورد عن النبي الكريم ﷺ.

    «الوجه البشري، بعد كل شيء، ليس أكثر ولا أقل من قناع». كما تقول أجاثا كريستي. وفي وقت الأزمات يُنزع ذلك القناع.

    أود أن أتحدث اليوم عن نوع جديد من الأقنعة، قناع الحِلم واستجلاب الصبر.. قناع «وجه الپوكر» تجاه الأذى، والذي نرتديه فوق طبائعنا التي يجب أن تستحضر الطيبة والإنسانية والمثابرة والحرص على النمو في هذه الحياة من الأساس وفي كل وقت. فلولا قدرة الإنسان على التطور والتكيف المستمر، لما عاش وتكاثر حتى اليوم بعد هذا الكم الهائل من الحروب والأوبئة التي صاحبت البشرية من مئات السنين.

    ربما قد تغير معظمنا في ٢٠٢٠ صحيح.. لكن سرعة التغير كانت أكبر في إظهار ما لا نريد في أنفسنا.

    • الملول ممل مع نفسه في الأساس، والممتعض أصبح أكثر امتعاضًا:

    هنا بعض القسوة (والحقيقة ربما) تجاه من يشعر دائمًا بالملل. أعتذر، لكن بالنسبة لي أصبحت حقيقة أكثر من أي وقتٍ مضى. أساس الرتابة والملل في هذه الحياة في نظري يعود لعدم قدرة (ورغبة) الشخص على البحث عن تجارب وهوايات جديدة. طبيعة الإنسان تتصارع بين البحث عن الاستقرار وبين فضول لا ينضب. يختار الإنسان الملول في العادة ميله للاستقرار الزائد عن الحد. الاستقرار الذي يصاب بشرخ، ثم بكسر، ليتحول إلى ألمٍ كبير عند أي أزمة.

    من كان يشتكي «معظم» أوقات ٢٠٢٠ .. كان يشتكي ويهرب من «نصف» أوقات العام الذي سبقه.

    لكي ننمو – حتى في تفاصيل عشرتنا للآخرين – نحن نستحق أن نكون مع من يبحث عن المزيد من التجارب والمزيد من الحياة والتطور والتعلم والتصالح المتجدد، وفي وقت الأزمة، نبحث على من يملك الرغبة في البحث بنصف طاقة على المزيد من الحياة على الأقل.

    قبل الأزمة، لم نكن نشعر بأننا مملين وملولين، وبعدها أصبحنا نشعر بذلك بوضوح، لأننا جلسنا مع الإنسان الأكثر مللًا في حياتنا. نحن.

    وعندما يجد الإنسان ما يتوق له في حياته سوف لن يصبح بعدها باحثًا عمّا يثريها، كما يشير جان جاك روسو. «لكي نكون أثرياء [بأنفسنا] لا يتطلب هذا الأمر امتلاكنا لأشياء كثيرة، وبدلًا من ذلك، فإنه يتطلب امتلاك المرء لما يتوق إليه في حياته».

    يستطيع الإنسان أن يرقى بنفسه – ربما – إن استوعب (دون أن يهز رأسه فقط) بأن دوام الحال من المحال، ولا باقٍ إلا وجهه الكريم. وعندما يستوعب هذا الأمر بصدق، سيصرف كل يوم محاولًا أن يجعل يومه التالي أفضل.

    سيجرب كل شيء يستطيع تجربته، سوف تظهر عدة أمور يتوق لها في حياتها.. وفي خلوته مع نفسه، وبعدها سيقل الامتعاض والملل، وسيعي من حوله أنه بالفعل أصبح إنسانًا خفيف المعشر. وأما بالنسبة للعنيفين في بداية المقالة، فإن ما يتوقون له هو الشعور بالقوة والسيطرة حتى وإن كانت مزيفة، وفي الأزمة.. لا تظهر هذه الأمور إلا مع القريبين.

    • تخيل أن أسوء شيء حصل لك، ماذا بعد؟:

    أو كما يعلق الكاتب الشاب «ريان هوليدي» في وصفه لـ«كاتو» أحد أهم الفلاسفة الرواقيين، «كان يتجول حافي القدمين وبملابس قليلة، في الحرارة والبرد. كان يدرب نفسه على حياة قد يواجه فيها الفقر. كان بالطبع أرستقراطيًا رومانيًا. ربما لن يصبح مفلسًا أبدًا. لكنه لم يكن يريد أن يخشى ذلك على الإطلاق، لذلك عاش، بتعبير سطحي وجيز، حياة مفلسة.

    وقد منحه هذا التمرين البسيط قوة غير مألوفة على التجربة والاستعداد والتفكير في مشكلة سلبت تأثيرها البالغ عليه.» ويعقّب «عندما تتمكن من الدراسة والتعلم مما فشل في الماضي، أو الاستعداد لما قد يفشل في المستقبل، فإنك تقلل من خوفك.»

    بالنسبة لي، حاولت.. حاولت بصدق منذ سنوات، بأن أتخيل أسوء ما قد يحصل لي، تخيلته بوضوح، بتفاصيله الكثيرة. وقد حصل في ٢٠٢٠م، تحديدًا في الخامس والعشرين من أكتوبر، يوم وفاة الإنسان الأعز على قلبي: والدي.

    كان جزء من المخاوف قد تبخر عندما تخيلت في الماضي هذا اليوم، وجزء آخر لا بأس به اختفى عندما عبرت له ولغيره «عن الفقد».

    والجزء الأكبر والباقي يأتي كل يوم ليذكرني بأن الحياة مؤلمة. وكل يوم أذكّر نفسي بأن هذا الألم جزء منها. يأتي الألم على شكل موقف قديم وذكرى جميلة ومقطع فيديو وصور، تذكرني بأن الحياة قبل اليوم الذي حصل «أسوء شيء فيه» كانت بخير، وتردد في أُذني قول الحنّان «وتلك الأيام نداولها بين الناس»، لأبحث كما ذكرت سابقًا على فتحات الضوء في تلك العتمة. تذكّرت أنني في نفس هذا العام العسير استوعبت أن هناك نِعم حقيقية لا تُعد، أخشى أن أشعر بالخجل من نفسي إن عددتها واحدة واحدة، ومن يعلم إن كان مصاب الفقد كان قد أتى هذا العام ليذكرني بأن الاستقرار حتى وإن كان في الوقت الذي لم يكن فيه أحدٌ مستقر.. فهو غير دائم. أو ربما ليعطينا استراحات لسنوات قادمة نتأمل فيها نِعمنا أكثر.

    ولكن، ماذا بعد؟

    هي لا تريد أن تستقيم. لم تقرر نيابة عن أي أحد بأنها ستسير بخط مستقيم. هكذا هي الحياة.

    نعالجها بما نتوق إليه في حياتنا، ونبحث باستمرار عما نحبه فيها، ومن نريد أن نكون معه في الحب والعسر واليسر.

    إن كنت ستنتظر الحال لكي يتغير، أرجوك لا تفعل.

    تغير أنت لحالٍ أفضل.

  • لا تتزوج فنانة

    … إن كُنت فنّان.

    رسالة لا تحمل معنيين.

    المال يقود أجزاءً كبيرة من دفة الحياة؛ لأنك مع نقصه ستنشغل بالهموم أكثر من فنك، وستشغلها معك أكثر.

    الفن ثانيًا، الطعام والشراب والملبس والحياة الكريمة أولًا. الحياة الكريمة عندما تستخدم المال، ولا يستخدمك.

    عندما يستخدمك المال وأنت في فنك، سوف تكون مؤدٍ للعمل، وليس فنان.

    الشغف «فخ» كبير. نعتبره غاية، وهو لا يتعدى كونه وسيلة للعمل. ثم الاستمرار في العمل. إياك وأن تنصت لمن يقول لك «اتبع شغفك».

    لا عيب في أن تكون مرتاحًا. «الدوام» قد يكون مجهدًا، لكنه مصدرًا لراحة البال، وعفة اليد.

    راحة البال دائمًا هي الأهم.

    لا تتزوج فنانة.. لأن الفنون لا تستقر إلا بالكثير من العمل والصبر والمثابرة، بعدها (ربما) ستتعلم كيف تبدع. وعندما تبدع، سيأتيك شخصًا ما يدفع لك المال مقابل أن يحصل على إبداعك، ووقتها فقط، فكر في أمر الدوام. وقبلها، فكر فكيف تدخر وتستثمر.

    الادخار والاستثمار أول وسيلتين لراحة البال بعد الدوام (وتوفيق الله قبلهم).

    لن تستطيع أن تصبر وتعمل وتثابر إن كنت وإياها تحاولون أن تبدعوا في فنونكم، المسألة مسألة وقت، الوقت لن يجلب لكم الأكل والملبس.

    هناك فرق بين تنسيق الوقت.. وطرد الهموم.

    تستطيع أن تدير يومك، يومًا بيوم.. تضع فنك في وقته المناسب.

    لكن الهموم.. لن تختفي وحدها.

    نقص المال من أصعب الهموم.

    لا تتزوج فنانة.. إلا إن كنت مرتاحًا (قبل أن تكون فنانًا). أو اترك فنك حبًا لها! .. أو تدري! .. تزوج أي إنسانة ليست فنانة.

    هذا ما أعرفه.

    كان الله في عون الجميع.

زر الذهاب إلى الأعلى