الشهر: مايو 2022

  • راحة البال في الخيارات

    الديون تُقلل الخيارات، والادخّار يزيدها.

    مثلما تكون راحة البال في التقليل.

    يحاول مورجان هوسل في كتابه «سيكولوجيا المال» مناقشة الدوافع التي يجب أن يتحرك الإنسان من خلالها ليدّخر ويستثمر المزيد من المال. ويشير أنه بدلًا من محاولة زيادة الدخل، من الأجدى أن يزيد الإنسان من تواضعه؛ فمعه لن يحتاج إلى إخبار الآخرين ما يملك وما لا يملك، ووقتها سيتجنب الحالة التي أصابت المغنية «ريانا» عندما كادت تُفلس في بداياتها بسبب غزارة الصرف، ليخبرها مستشارها المالي «أن مشكلة الصرف الغزير تجعل أمركِ ينتهي بامتلاك أشياء، بلا أموال».

    كل المدارس التقليدية تدفعنا لوضع أهداف مالية على المدى الطويل والقصير لنحققها: سيارة جديدة، بيت جديد، شنطة جديدة، جوال جديد. وننسى أن هناك هدف أهم غير مرتبط بزمن. وهو راحة البال.

    فنحن لا نخبر أنفسنا إننا يجب أن ندّخر ونقلل الرغبات لكي نملك خيارات متاحة أكثر. مثلما لا نخبر أنفسنا إننا يجب أن ننتبه لأكلنا من أجل حياتنا بعد الشباب، ولا نخبر أنفسنا أن الرياضة مهمة لصحتنا وليس لإنقاص الوزن.

    الأهداف ترتبط بعملنا المهني لنقيس الإنجاز، أما راحة البال فهي المقياس الأهم خارج المكتب. وراحة البال تحتاج لبعض الانضباط كي نصل إليها.

    هناك طريقتين لجعل الإنسان أكثر ثراءً، تقليل الرغبات إحداها كما يُشير «جان كاك روسو». وأقف مذهولًا أمام حقيقة عدم انتباهنا لهذه البداهة عندما أناقش من حولي.

    عندما نستيقظ في يومٍ ما دون عمل، فإن المدّخرات تعطينا المساحة للتفكير بهدوء وسكينة حول خياراتنا القادمة. بينما لا تساعدنا المقتنيات الجديدة على ذلك. وعندما نُقلل، فإن المدّخرات لا تخلق مساحة أكبر من الخطوات القادمة فحسب، بل تروض نفسياتنا التي اعتادت أصلًا على الانضباط أمام كل شيءٍ مُغري، فحتى إن اختفى الدخل فجأة، ربما نواسي أنفسنا أن رغباتنا القليلة لا تحتاج لهذا الذعر. في زمن يعاني فيه الكثير من البشر أسباب وفاة مرتبطة بالسمنة أكثر من الجوع، وتوتر من سوء الإدارة المالية أكثر من الفقر.

    الديون تميل لأن تكون رغبات، راقبها عن كثب وربما ستستبدل تبريرها.

    أما التقليل فهو سلوك، بل تاج الراحة، وعدم التعلّق.

    لا أحاول أن أكون زاهدًا.. ولن أكون ربما. إنما أحاول تأمل فكرة أن الرغبات هي ما يجب أن نُسيطر عليها وليس العكس، وأن الأولويات إن ترصصت بشكلها الصحيح، ربما سنحصل على بعض التوازن، وراحة البال.

  • راحة البال في التقليل

    عندما تقل الرغبات في الأشياء تقل المصاريف، وعندما تقل المصاريف تقل الالتزامات، وعندما تقل الالتزامات تزداد راحة البال، اكتشاف سخيف ومهم في نفس الوقت. هذا المثال السطحي لا ينطبق على المال فقط، بل على الهوايات وخيارات الأكل والطموحات العملية وكل شيء أكبر من طاقاتنا.

    أتأمل مؤخرًا فكرة «راحة البال» والتي يزداد توددي لها مع تقدمي في العُمر. ومع وجود الانترنت وتسارع نمط الحياة والفُرص العديدة المتوفرة والتي قد يحصل عليها إنسان في عمري مع تراكم بعض الخبرة، وجدت نفسي مؤقتًا ضائعًا فيما أريد ولا أريد.

    الإعلانات عن عسل السدر ومكائن الحلاقة، وعروض اشتراكات النوادي والوجبات الصحية، والوظائف ذات الرواتب العالية في المُدن الأخرى كلها تحرك شيئًا ما داخلي، وكأنها كلها تنقصني.

    رغبة الإنسان في الحصول على المزيد من كل شيء رغبة طبيعية؛ فقط إن وجدت من يحفزها، وهذا ما يجعل كُتب تطوير الذات التقليدية شديدة الانتشار، وازدياد متابعي مشاهير السنابشات المهول مبرر. كلهم يدفعونا للبحث عن شيء نعتقد أنه ينقصنا. نبحث عن شكلنا الأكثر وسامة وأنجح وأنحف وأغنى وأكثر سفرًا، مع ابتذال واضح لما نملكه.

    راحة البال في التقليل. في تقليل ما نعتقد أننا بحاجة له. هذه الفكرة التي أتأملها بالتحديد.

    كُنت دائمًا أعيب على أحد أقاربي المتخرجين بشهادة معتبرة والذي يسكن في مدينة نائية مع زوجته وأطفاله في بيت ظريف وحياة اجتماعية أقرب ما تكون إلى الرائعة، عندما كنت أخبره بأن مدينة أخرى إن ذهب إليها وتوظف فيها قد تعطيه فرصة الحصول على ثلاثة أضعاف راتبه الحالي، ليكتفي بالرد عليَ «ولماذا؟» ويتبعها بإخباري عن حزمة من الامتيازات غير المادية التي يفتقدها كل أقرانه. رفقة الأبناء، عمل غير متطلب، وخرجات غير مكلفة، وإجازة بسيطة، وفرصة أكبر للحصول على بيت العمر بسبب رخص الأسعار النسبي، هي تعويض يراه جيدًا عن ثلاثة أضعاف الراتب. سببها الاكتفاء بالمدينة التي يعيش فيها، سببها ربما حرصه على الاكتفاء بالتقليل.

    قد لا يكون ما يفعله الصديق هو المثال الأفضل لكل إنسان يبحث عن أحلام حياته العملية. إلا أن رحلة البحث عن تحقيق الأحلام لا يجب بأي شكل أن تهزم نزعة الإنسان العكسية في البحث عن «راحة البال».

    السرعة وغزارة المعروض تجعلنا لا نرتاح في بالنا. نظرتنا لما ينقصنا لا تجعلنا نرتاح في بالنا أيضًا، مهما حصلنا على المزيد.

    جربت حالة التقليل مؤقتًا، قمت بحزمة تغييرات في نمط حياتي اليومي منذ بداية العام، أصبحت أكثر انضباطًا بعدم الخروج من المنزل مع صرف المزيد من الوقت على الرياضة المنزلية غير المُكلفة من خلال اشتراكي في برنامج Apple Fitness+، مع الانضباط في القراءة المنتظمة العميقة، والخروج فقط مع أصدقاء أود بصدق أن أقابلهم، لأكتفي بالسؤال عن حال الآخرين هاتفيًا.

    جربت أن أرفض معظم المشاريع المغرية وعروض العمل الفلكية التي تتطلب مني الانتقال إلى مكانٍ آخر. كل ما أوده هذه الأيام تنمية مشروعي الخاص بهدوء وببطء، والمزيد من الكتابة وطبعًا المزيد من المقرّبين. قررت مكانها أن أعوض ذلك بزيادة الرصيد المالي بالاستثمار والادخار المنتظم، وقررت محاولة زيادة ثرائي بالورد اليومي من الامتنان والحمد، وممارسة حياة أكثر بطئًا مع اليوجا والتأمل وغداء يومي مع والدتي التي تفتقد زوجها كثيرًا.

    اختياراتي في الأكل أصبحت محددة ومعروفة، كتبت ذات مرة بضع وجبات أحبها جدًا، وأصبحت حريصًا قدر المستطاع على ألا آكل غيرها. كل يوم.

    ولا أعلم إن كانت ضالتي ستتغير مع السنوات القادمة، إلا أن التقليل من الإزعاج الكثيف والذي لا ينقصني معروضه أصبح مفعوله واضحًا على راحة البال. سيارتي التي أقودها من أجمل السيارات التي قدتها في حياتي، سعرها نصف قيمة السيارات التي اعتدت قيادتها في السابق. حتى الملابس والثياب، لا تخرج عن كونها محددة الشكل والنوع، ثياب مريحة أو تي شيرت من نوع واحد مع جينز، ولا أملك سوى ساعتين (واحدة غالية اشتريتها قبل الزواج، وهي مركونة في درجٍ ما) والثانية ساعة «أبل» التي تشجعني يوميًا على التحرّك.

    وقّت زيارتي للحلاق مرة كل ثلاثة عشر يوم، دافع الزيارة دائمًا وأبدًا نفسي وليس شكلي. أحاول التوفير في أشياء كثيرة لأعطي نفسي الحق بالسفر غير المكلف. مساحات الحرية في اختيار كيفية قضاء ساعاتي اليومية لا تُمس، أحاول النظر إلى يومي يومًا بيوم، وأحاول الحصول على بعض راحة البال، والتي يراها أقراني نوع من التكاسل.

    عندما يبحث الإنسان بعمق وتركيز عن راحة باله، سيرى أن القليل مما لديه هو الحقيقة المختبئة التي يشوهها الإعلام وبعض الأصدقاء المجانين. والثراء الحقيقي ربما سنكتشف في يومٍ من الأيام أن صعوبته في القناعة وليس في المزيد من كل شيء، بل بعضٌ من بعض الأشياء.

  • أونكل جاك – الجزء الثالث: مقالة ساخرة

    (هذه السلسلة مستوحاة من أحداث حقيقية، وهنا الجزء الأول والجزء الثاني منها).

    حُسن النية لا يُبرر سوء التصرّف، كما قال لي أحد الحكماء في حياتي. وبالنسبة لصديقي، فقد كان حَسن النية في كل تصرّفاته منذ أن قرر زيارة أونكل جاك ونسبائه في لندن مع زوجته.

    عندما تهشّمت سيارة الإيجار مرتين بسبب الشجرة التي وقعت عليها والاصطدام وجهًا لوجه مع سيارة أخرى بالقيادة داخل الدوار في الاتجاه المعاكس، توقع الجميع بما فيهم الوقور أونكل جاك بأن ما حدث كان حظًا عاثرًا ونقصًا في خبرة القيادة عكس المسار التقليدي، وهذا ما شجع الأسرة للتحمّس بالسفر وتمضية ما تبقى من الإجازة خارج لندن، وتحديدًا في مدينة باريس التي تملك مع لندن خطًا مباشرًا بالقطار.

    قبل زيارة باريس بأيام، اقترح أحد أفراد الأسرة حضور حفلًا غنائي يُقام في إحدى ضواحي لندن، وبالطبع لم تكن فكرة الذهاب لتلك المدينة باستخدام القِطار مطروحة، لأن صديقي كان قد تسلم سيارته الثالثة مدفوعة الإيجار، ومن الأجدى للجميع استخدامها بدلًا من الخسائر غير المبررة بشراء تذاكر القطار، وبالفعل التم شباب الأسرة داخل سيارة مع صديقي وزوجته وتوجّهوا (متأخرين) إلى مقر الحفلة.

    تأخرهم تسبب في عدم قدرتهم على إيجاد موقف للسيارة. صرفوا عدة دقائق يبحثون عن موقف ملائم، ولكن دون جدوى. توجّهت أنظار صديقي إلى مواقف ذوي الاحتياجات الخاصة، لتنظر إليه زوجته وأحد نسبائه هازين رأسهم رافضين الفكرة التي تدور في ذهنه. حاول إقناعهم بأن هذا الموقف قد يكون مخالفًا صحيح.. إلا أن قيمة المخالفة قد تُحتمل كمصروف إضافي يغنيهم عن المزيد من اللفلفة والبحث، وكأن لسان حاله يقول «قيمة المخالفة بمثابة دفع تكاليف صف السيارة».

    اقتنع الجميع، وقرروا إيقاف السيارة في موقف ذوي الهِمم للحاق بما تبقى من الحفلة. توقعوا طبعًا وجود ورقة مخالفة عند عودتهم، ليسددوها بالمشاركة كما تم الاتفاق.

    انتهت الحفلة.. كانت رائعة، تناولوا العشاء في مكانٍ قريب المسرح، ثم اتجهوا إلى المواقف، لكنهم لم يجدوا ورقة المخالفة فوق زجاج السيارة. لأنهم لم يجدوا السيارة أصلًا!

    صُرفت قرابة الساعة وهم يسألون يمينًا وشمالًا عنها وعن قسم الأمن وإدارة المواقف، وبالطبع موضوع سحب السيارة لم يكن على خريطة تفكيرهم هم فحسب، بل لم يواجه فريق عمل إدارة المواقف سحبًا للسيارة بسبب مخالفة صريحة ومباشرة مثلما فعل صديقي وأرحامه منذ فترة طويلة؛ ولذا كانت مهمة إيجاد رقم تواصل للشركة أو الجهة التي سحبت السيارة أمرًا بالغ الصعوبة.

    وتم الاتصال على أونكل جاك، الذي اعتقد أنه بعدم انضمامه مع الشباب للذهاب إلى الحفلة كان قد افتك من شرّهم. اضطر للقيام بحزمة اتصالات وهو في منزله على من يعرفهم في تلك المدينة حتى توصلوا إلى الجهة التي قامت بسحب السيارة، وأخيرًا استلموها بعد أن وقع صديقي على شيء أشبه ما يكون بتعهد، ودفع قيمة مخالفة كبيرة لم تكن توازي المعاناة، مع الحصول على قسط من التوبيخ من المسؤولين هناك وأونكل جاك عن هذا التصرّف. وأخذوا السيارة بسلام وعادوا إلى المنزل.

    بالنسبة لرحلة فرنسا فقد شهدت الخاتمة المسكية لهذه الإقامة. فقد اجتمعت الأسرة وتوجّهوا إلى محطة القِطار. طبعوا التذاكر قبلها (أونلاين) إلى باريس، وركبوا القطار ووصلوا إلى هناك.

    مضت نهاية الأسبوع على خير، وكان اختيار الرحلة موفقًا جدًا، فالأجواء في باريس رائعة، بل ولم يكن يتخيل أحد أفراد الأسرة أن يكون خيار الذهاب إليها خيارًا جميلًا إلى هذا الحد.

    ثم استقل الجميع قِطار العودة إلى لندن، وأثناء الخروج من القِطار حدثت المصيبة الأكبر.

    «كيف تذهب إلى باريس وتعود منها وأنت لا تحمل سوى تأشيرة بريطانيا في جوازك؟» وجه الضابط سؤاله إلى صديقي الذي نسي أمر التأشيرة تمامًا، فنسبائه الإنجليز لا يحتاجون لها، وكونه الأجنبي الوحيد فقد كان لزامًا عليه الحصول على تأشيرة «شينجن» مع تأشيرة بريطانيا، ولسببٍ ما لم يُفتشه أحدهم في قطاري الذهاب والعودة.

    اضطرت السلطات لكلبشة صديقي الذي خالف النظام مخالفة عنيفة، تستدعي الآن تدخلًا دبلوماسي عالي المستوى. قاموا الانجليز بجلسة تحقيق مطوّلة معه، وكانوا على وشك طلب تدخل من السفارتين السعودية والفرنسية لتبرير هذه الزيارة. حتى ظهر مرة أخرى أونكل جاك.

    أخذ زمام التفاوض مع السلطات الإنجليزية، كانت محاولة استرحامه على أشدّها، وطلب منهم أي ورقة أو تعهد أو إجراء يمكن له أن يقوم به بدلًا من إقحام السفارات في الموضوع أو سجن صديقي. وبالفعل وعلى ما يبدو، أن أونكل جاك الضابط الوقور كان يحمل تقديرًا وعلاقات ممتازة كان قد ادخرها خلال خمسين عامًا قبل أن يظهر له صديقي الذي استنزف نصفها خلال هذه الشهرين.

    وانتهى أمر زيارة باريس أخيرًا على خير بشق الأنفس.

    وفي طريق العودة إلى المنزل، التفت أونكل جاك لابنته بالتعميد ليسألها: «قلت لي متى موعد عودتكم للوطن؟»، لتجيبه وهي ضاحكة، وصديقي جالس متفرجًا عليهم في المقعد الخلفي/

    عاد صديقي مع زوجته بسلام إلى مدينة جدة. وكان أكبر خبر مؤسف للجميع وهو وفاة أونكل جاك بعد أشهر قليل بعدها. لتبقى هذه الرحلة في أذهان من عاصروها، وليحكي عنها كاتب هذه السطور أحباءه القراء.

زر الذهاب إلى الأعلى