الشهر: أغسطس 2022

  • جدة وأهلها

    كُنت أعتقد أن علاقتي مضطربة بهذه المدينة، حتى حسمت الرأي وتأكدت إنني أحبها.

    «عشت أكثر من عقدين في ثلاث مُدن مختلفة على حدى» تحكي لي والدتي عن حياتها وهي في السبعينيات اليوم «.. ولم أجد أهلًا كأهل جدة». لا يخجل كل من استوطن هذه المدينة باعترافه أنه أصبح بشكلٍ مُطلق أنه من أهلها.

    يحتاج الناس فيها بعض الوقت ليكتشفوا أن أصدقاءهم وزملاءهم ليسوا من أهلها أصلًا، فهنا مكان يذوب فيه ابن البادية والحضري والمقيم؛ حتى يُصبح جميعًا أهلًا لها.

    جدة تستقبل الجميع، ولا تعرف كيف تودّعهم.

    لا يعرف أهل جدة كيف يكونوا متكلفين في روحهم، رغم تكلّف المظهر، ولا يمانع أن يمضي فيها صاحب الملايين وقتًا طويل في أماكنها الشعبية، ولا يشعر كل من يكافح من أجل لقمة العيش أن يثبت لنفسه أنه في مكانه ومدينته.

    المطاعم والأفكار، والتنمية، والابداع، والثقافة.. رغبوا أن يكونوا مرتبطين بها. مثل البساطة والسماحة والانفتاح وحسن المعشر حينما استقرت معها.

    جدة العريقة، لا تعرف الحسد. مكتفية بذاتها، تحب الجميع وإن لم يحبوها.

    وإن سألوني عن أهلها. هم أهلي. وأنا أهلٌ لها.

    وعن عيبها، هي بعيوبها لا تود أن تكون إلا العروس. لا غزل يغنيها، ولا نقد يُنقصها، هي هكذا، لا تعرف إلا أن تكون كما اختارت. لا تُغري، ولا تلمع. فجمالها يكفيها.

  • ماذا يعني أن نقول فلان إنسان بسيط؟

    يميل تعريفنا الذاتي للشخص البسيط بأنه: إنسان غير متكلِّف في هندامه وشكله ونمط حياته، وحتى سلوكه العام مع الآخرين. نطلق هذا التعريف بغض النظر عن المستوى الاجتماعي. وأحيانًا نطلق بحسن النية على الأشخاص محدودي الذكاء «أصحاب عقول بسيطة».

    بينما يوجد تعريف آخر أكثر إغراءً من ذلك؛ في الكتاب اللطيف «حياة أبسط، ص ١٦٠» يقول:

    يصبح الوجود معقدًا للغاية عندما نخضع أنفسنا للمهام أو الممتلكات دون أن يكون لدينا إحساس واضح بالغرض منها. عندما لا نعرف بشكل صحيح سبب قيامنا بشيء ما، فإننا لا نعرف مقدار ما نحتاجه في حياتنا.

    لذلك، يمكن تعريف البساطة على أنها نتيجة ثمينة من وضوح أهدافنا.

    لسوء الحظ، فإن مسألة الهدف هي مسألة يتخلى عنها مجتمعنا بشكل عام. بسبب التركيز الجماعي على الحرية والنظام الاقتصادي القائم على اختيار المستهلك اللامتناهي، يبدو أنه من الوقاحة وغير المربح للمطالبة بتفسير لماذا قد نرغب في امتلاك أو قراءة أو متابعة، أو القيام بأشياء معينة.

    لهذا السبب، في النهاية، تبدو الحياة المعاصرة معقدة للغاية. يتم تقديم الملايين من الاحتمالات لنا، لكننا لا نشجع أبدًا على التوقف والسؤال ما فائدة ما نقوم به أو ما نمتلكه في الحقيقة؟

    الخطوة الحاسمة نحو عيش حياة أبسط ليست – كما قد نفترض في البداية – التخلص من الأشياء. بل أن نسأل أنفسنا ما هي رغباتنا الحقيقية وما هي الغايات التي نهدف إليها.

    البساطة ليست حياة مع القليل من الأشياء والالتزامات فيها، بقدر ما هي حياة مع الأشياء الصحيحة والضرورية، المتوافقة مع ازدهارنا. ستشعر حياتنا – وستكون – أبسط عندما نفحص عقولنا للتخلي عن أكثر الأفكار سرية وثرية: ​​معرفة ما نريده حقًا.

    على نفس السياق، كتبت في مقالة سابقة عن سؤال ضروري في حياتنا: ماذا يعني أن نكون مسرفين؟ لأجد الإجابة كانت قد أشارت لها الكاتبة ڤيكي روبين: بأن أي شيء نقتنيه، ولا نستخدمه لفترات طويلة ومنتظمة، قد يُعد إسرافًا.

    المقتنيات، مثل التكلّف في المشاعر، مثل التكلّف في تحمل ما لا نريده لأنفسنا.. هي نوع من الإسراف وعكسٌ للبساطة.

    وربما من الأجدى أن نُعرِّف الإنسان البسيط: هو الإنسان الذي يمتلك أهدافًا أوضح من غيره.

  • في عدم القدرة على السفر

    يعلم القارئ المُخلِص أنني من دعاة السفر. ويعلم المقرّبون أن السفر المنتظم من أقصى الأولويات في حياتي. ولا أتحدث عن طريقة السفر التقليدية عالية التكاليف والاستعداد، وبالطبع لا أقصد في أي حالٍ من الأحوال نوع السفر الذي يحوفه اختيار المكان من أجل التصوير، فإن طلبت من معظم الناس أن يتركوا كاميراتهم أو جوالاتهم الذكية عندما يسافرون إلى أي مكان، فإننا على الأغلب سنشهد أشخاصًا يزورون أماكنًا توائم حقيقة ما يحبوه ويريدوه.

    [أذكر على نفس النمط بشكلٍ مختلف صديقًا عزيزًا كان يستمع لأغانٍ شعبية (بالدس)، خوفًا من حكم والده الذي كان متطورًا وعصريًا وعازفًا للأغاني الغربية.]

    وقد وقعت في غرام تأمل جديد كُنت قد قرأته في كتاب حياة أبسط (A Simpler Life)، لسلسلة مدرسة الحياة، عندما تحدث الكاتب فيها عن قدرتنا بالسفر في دواخلنا أكثر. فالهدف الأسمى من السفر هو خلق الذكرى، إلى جانب عيش اللحظة، وربما إلى محاولة جلب جوانب أعمق للأيام التي تليه.

    لا نحتاج إلى كاميرا أو أي شيء تقني لمساعدتنا على التركيز أكثر على الذكريات التي نحتفظ بها بالفعل. هناك كاميرا في أذهاننا: تعمل دائمًا، وتلتقط لقطات من كل شيء رأيناه من قبل. لا تزال أجزاء كبيرة من الخبرة موجودة في رؤوسنا، سليمة وحيوية، فقط في انتظار أن نسأل أنفسنا أسئلة رائدة مثل: «إلى أين ذهبنا بعد أن هبطنا؟» أو «كيف كانت وجبة الإفطار الأولى؟»؛ تجاربنا لم تكن كذلك، اختفت لمجرد أنها لم تعد تتكشف أمام أعيننا؛ يمكننا أن نبقى على اتصال مع الكثير مما جعلهم ممتعين ببساطة من خلال فن الاستحضار. نتحدث إلى ما لا نهاية عن الواقع الافتراضي، لكننا لسنا بحاجة إلى أدوات – لدينا أفضل أجهزة الواقع الافتراضي الموجودة بالفعل في رؤوسنا. يمكننا – في الوقت الحالي – أن نغلق أعيننا ونسافر إلى أفضل اللحظات وأكثرها عزاءًا والتي تعزز الحياة من ماضينا ونبقى فيها.

    هذه الكلمات كان لها وقعٌ كبير ليس لحقيقتها التي افترضتها، ولكن لتأملي في كون الناس لا تتعامل مع الذكرى بشكلٍ جدي، لا أشعر أن الكثيرين يتأملون لحظاتهم السعيدة أكثر من تأملهم لما هم قلقين منه. ربما قد يكون هذا الأمر فيه نوع من النوستالجيا، ولكنني أعلم اليوم أن الذكرى هي من تصنع جزءً من خيالنا وتكويننا وأولوياتنا. نسعى من خلال الاحتفاظ بالذكرى الحرص أكثر على تِكرارها، ليس لأنها الأصح لنا، ولكن لشعورها العميق الذي يؤثر علينا.

    يخلق الناس علاقاتهم بأبنائهم وأحبائهم من خلال الذكرى، وليس المؤونة والمشتريات.

    نتأكد بعد مضي بعض الوقت أن حياتنا سعيدة فعلًا بسبب اللحظات السعيدة فيها، حتى وإن كانت مليئة بالظروف الصعبة.

    نحن لا نحتاج إلى كاميرات والمزيد من التصوير والكثير من الأشياء.. نحن نحتاج إلى عقول حية وذكريات حيوية لكي نتأكد إننا في أفضل حال.

  • المصلحة ليست أمرًا سلبيًا على كل حال

    اعتراف سريع اليوم.. كلما وددت الكتابة أكثر، كلما صعُبت المهمة.

    بعضُ المخاوف تأتي في الجزء الخلفي من العقل تجاه حُكم القراء الأفاضل، وهذا ما يجعل مهمة اختيار الفكرة التالية للكتابة ليست أمرًا لطيفًا. وبصراحة، لا يستثير عقلي إلا بعض المواضيع التي – على ما أعتقد –لا تتناسب مع ذائقة بعض القُرّاء الكِرام.

    كانت إحدى تأملاتي وأنا أستمع لحلقة Lex Fridman على البودكاست مع ضيفه رجل الاستخبارات الأمريكي المستقيل، عن تقديم كل المجتمعات السياسية مصالحها قبل مصالح الآخرين. فقد ذكر مثلًا: أن المساعدات التي تُعطيها الولايات المتحدة لأوكرانيا في حرب هذه الأيام، ببساطة «ليست مجانًا» وبالتأكيد ليست بدافع إنساني. هي في النهاية ديون على عاتق الأوكرانيين (الراغبين بشدة للحصول على هذا الدين) والتي تظهر لنا في الإعلام على أنها مساعدات.

    عمومًا المساعدات تأتي على شكل ديون في حياتنا؛ أليس كذلك؟

    في نفس المقابلة، ذكر الضيف أن وقوف الولايات المتحدة مع البريطانيين في الحرب العالمية الثانية، كان قد كلف البريطانيين أقساطًا تم الانتهاء منها عام ٢٠٢٠م. تخيلوا ثمانين عامًا في سداد الديون! قد يكون هذا الأمر مثيرًا للدهشة، إلا إنه في واقع الأمر نوع تقليدي من تبادل المصالح بين الدول. وهو بالطبع ليس عيبًا.

    عندما كُنت في إسطنبول في إجازتي الأسابيع الماضية، قام أحد الأصدقاء الأتراك الذين عاشوا في المملكة لفترة طويلة بخدمتي في أمرٍ ما مع إحدى الجهات. وكنوع من التقدير، رتبتُ مبلغًا من المال لأعطيه إياه، إلا إنه رفضه رفضًا قاطعًا. كانت ردة الفِعل غير متوقعة بالنسبة لي.

    هذا الصديق كان على معرفة وطيدة بإخوتي منذ عشر سنوات بسبب عمله في قطاع السياحة (وأنا لم أكن أعرف عنه أي شيء، سوى سماعي لاسمه)، وقد حكت لي أختي أنها قامت سابقًا بإغراقه بالزبائن، مما جعله شديد الامتنان لها وللعائلة، وقد كان تفضّله بمساعدتي (ربما) من باب رد الجميل، أو ربما لمعرفته الأكيدة بطيبة وكرم السعوديين الذي لا يحرصون على التعامل مع الآخرين من باب المصلحة المجردة، بقدر حرصهم من ناحية أخرى على الحصول على علاقة إنسانية تربطهم مع أصحاب المصلحة. فيتحول العميل عندنا إلى صديق، والمورد إلى أخ، والزميل إلى عضو فعّال في بشكة البلوت.

    مع عدم استيعابي لرفض الهدية.. قمت تلقائيًا بمحاولة تحمل مسؤولية هذا الجميل، لأجلب له خلال ساعات زبونين مرتقبين له. فقد فكّرت في النهاية – مع طيب الخاطر – أنه لا يود أن يخدمني هكذا ببساطة، حتى رغم وجود الأجر من الله. فالمصلحة تظل المحرك والحافز، ولا مانع من بعض اللُطف الحقيقي مع المصلحة.

    وبواقعية.. لا أجد أي عيبٍ في المفهوم السلبي السائد (بأن العلاقات تُبنى على المصالح). فلا أعلم كيف يمكن سيكون شكل الحياة التي لا يكون فيها مصالح واضحة ومشتركة ويمكن قياسها بشكلٍ ما.

    كان الله في عون الجميع.

  • تأمل الأفكار ليس عيبًا

    1. لا أحاول التنظير من خلال تناولي عدة مرات موضوع الاكتفاء والتقليل وشراء راحة البال، عوضًا عن الإكثار من كل شيء والغرق في بحر الخيارات. وعندما يتناول أي كاتب موضوعًا عدة مرات في أماكن مختلفة، فهو ببساطة إنسان يتأمل فكرة تشغل باله، أو قد تكون تغييرًا حاصلًا في حياته مؤخرًا انعكس على انتاجه. والمقالات أعتبرها مساحة للتعبير على غِرار كتابة المذكرات، إلا أن الفرق في كونها تُستعرض أمام العامة.
    2. أثناء إجازتي التي عُدت منها هذا الأسبوع، جلست مع أقربائي الشباب، ليسألني أحدهم من باب الدردشة «ما رأيك بالزواج عن حب؟» وأدليت بدلوي، لنعيد الحديث عن نفس الموضوع مرة أخرى في جلسة ثانية. هذا الموضوع بلا شك كان قد شغل باله. وهو بالطبع لا يبحث عن نصيحة مباشرة وصريحة بقدر ما يبحث عن زوايا غير مُضاءة له من خلال الحديث، أو كما يُشير آدم جرانت: بأن طالب النصيحة عادةً لا يريدها مباشرة وصريحة، بقدر البحث من خلال سؤاله عن زوايا لم ينتبه لها.
    3. الكتابة أو الحديث بشكلٍ متكرر نحو موضوعٍ ما، يعتبر شكلًا من أشكال تأمل الأفكار الذي لم يُحسم بعد. ينصت الإنسان لنفسه من خلال قراءته لما كتب، وينتظر أن يخبره أحدٌ بشيء لم يكن على باله عندما يسأل عن نصيحة أو يطلب استشارة. وربما أرى أن كتابة أي شيء ينظم ما يمر به العقل، لنستطيع تأمل أفكاره بهدوء. وعن الاستشارة، سنحصل على أفضل عائد إن اتجهنا إلى الشخص الأكفأ في مجالها.
  • عن ظاهرة القتل الجماعي في أميركا وما يمكن لنا تعلّمه

    ترددت في نشر هذه المقالة، لأسباب حساسة.. ولكن أجد نفسي الآن أود مشاركتها.

    «هناك هذا مسار واضح متّسق. يبدو أن صدمة الطفولة المبكرة هي الأساس، سواء كان العنف في المنزل، أو الاعتداء الجنسي، أو انتحار الوالدين، أو التنمر الشديد. ثم ترى النمو تجاه اليأس، ثم ثبات اليأس، والعزلة، وكراهية الذات، والإحساس بالرفض في كثير من الأحيان من الأقران. يتحول ذلك إلى أزمة يمكن تحديدها ورؤيتها، حيث يتصرفون [المجرمين الصغار] بشكل مختلف. وفي بعض الأحيان يكون لديهم محاولات انتحار سابقة.»

    كان هذا التعليق على لسان الدكتورة جيليان بيتيرسون، والتي شاركت زميلها جيمس دينسلي في تأليف كتاب يتناول القضية البائسة وشديدة الأثر:  قضية القتل الجماعي، والذي يحمل عنوان The Violence Project (مشروع العنف).

    وتتبع بقولها: «ما يختلف عن الانتحار التقليدي هو أن كره الذات ينقلب ضد مجموعة. بدأوا يسألون أنفسهم، «ذنب من هذا؟» [ثم يميل التساؤل] هل هي جماعة عرقية أم نساء أم جماعة دينية أم زملائي في الصف؟ تتحول الكراهية إلى الخارج. هناك أيضًا سبب آخر وهو البحث عن الشهرة والسمعة السيئة.»

    أزمات الطفولة فقط؟

    إن راجع أي إنسان حياته سيكتشف أن في بدايات لحظات اليأس والانكسار والخسائر الفادحة تقوده نفسُه لمحاولة التملص من هذه المشاعر عبر تحميل الآخرين أو الظروف المسؤولية. كاملة.

    ولذلك دائمًا ما كانت إحدى أهم الفضائل التي تساعدنا على المضي في حياتنا هي ما أُسميه فضيلة «تحمّل المسؤولية» أو «لوم الإنسان لنفسه» على الأقل في الحاضر وبعد البلوغ وبعد الإمساك بزمام الحياة عند الكِبر. فالكثير منّا قد واجه نوعًا من العُقد، والتحديات النفسية والكثيرين أيضًا قد نجوا بنسب متفاوتة. إلا أن رصيد الإشادة الأكبر يذهب لمن تجاوزها كلها لحياة أفضل.

    ولكن، ماذا إن استمر الانكسار؟ ماذا سيحصل إن تأكد وآمن الإنسان بأن قدره هو الرفض والعزلة والإحساس بالكراهية؟ كيف سيُمسك زمام أمور حياته دون أن يركض خلف شبح التعبير عن هذه المشاعر التي تتحول إلى إجرام منظم يروح ضحيتها أطفال أبرياء؟

    الحقيقة المؤسفة الأولى هي أخذ قرار المجرم بالانتحار؛ وقبلها قرار الانتقام!

    «لا أعتقد أن معظم الناس يدركون أن هذه الحالات حالات انتحار، بالإضافة إلى جرائم قتل قبلها. القاتلين الجماعيين يصممون هذه الحركة لتكون أعمالهم النهائية. عندما تدرك ذلك، فإنها تقلب تمامًا فكرة أن شخصًا ما يحمل سلاحًا في المشهد سوف يتوقف بأي شكل من فِعل ذلك. هؤلاء الأفراد أتوا ليقتلوا ويُقتلوا. من الصعب التركيز على الانتحار وحده هنا، لأنها جرائم قتل مروعة. لكنها جزء مهم من التصرف. وفي نفس الوقت نحن نعرف الكثير عن عالم منع الانتحار.» تعلّق بيتيرسون.

    وماذا لو استوعبنا أن القتلة هم أفراد عاديون من المجتمع قبل أن يتحولوا إلى قتلة؟

    بيترسون تعلّق «إذا شرحنا هذه المشكلة على أنها شر محض أو أي تسميات أخرى مثل الهجوم الإرهابي أو جريمة كراهية، فإننا نشعر بحالٍ أفضل لأنها تجعل الأمر يبدو وكأننا وجدنا الدافع وحل اللغز.

    لكننا لم نحل أي شيء. لقد شرحنا المشكلة للتو. ما تفعله هذه المصطلحات الإشكالية حقًا هو منعنا من إدراك أن الرماة الجماعيون هم جزء منّا. يصعب على الناس الربط في هذا الأمر، لأن هؤلاء الأفراد قاموا بأشياء مروعة ووحشية. ولكن قبل ثلاثة أيام، كان مطلق النار في المدرسة هو ابن شخص ما أو حفيده، أو جاره، أو زميله، أو زميله في الفصل. علينا أن نتعرف عليهم في وقت سابق على أنهم «أشخاص مضطربون» إذا أردنا التدخل قبل أن يصبحوا وحوشًا».

    كلمة السر الأولى هنا «التعرّف عليهم» ولأننا في مجتمعاتنا محظوظين بندرة هذه الظاهرة، فإن أول ما يقودني إليه التحليل اليوم هو «التعرّف على الظواهر قبل الأشخاص» وقبل أن تُحدِث انفعالات، كما سنذكر.

    هل قد يكون هوس الشهرة؟

    نزعة الإنسان للبحث عن المكانة مع من حوله تقوده لرغبة الوصول إليها مهما كانت الوسيلة أحيانًا، فقد تكون الشهرة هي الغاية، أما الوسيلة فليس شرطًا أن تكون أمرًا سامية. وقد أثبت التاريخ أن أحد أهم محفّزات المجرمين للقيام بجرائمهم على مرأة البشر، هي فكرة تخليد أسمائهم في التاريخ. وربما يكون «مارك ديڤيد تشُبمان» قاتل المغني الشهير جون لينون أشهرهم، حيث برر ذلك صراحًة.

    لا يميل الإنسان للتعقّل قدر ميله للاستجابة إلى عواطفه ولما يتوق إليه في حياته.

    وهنا سببٌ آخر (سطحي قليلًا) يجعلنا نستخف بظاهرة انتشار مشاهير «السناب شات» وبقية قنوات التواصل الاجتماعي، ونكتفي بلسان حال يقول «كم إعلان تجيب ملايين».

    وإن سألت بعضًا من المتابعين المخلصين لهم، قد لا يعطوك إجابات صريحة عن قيمة المحتوى الذي يقدموه، إلا أن السبب الدفين خلف المتابعة هو رؤية «ما يتوق إليه الإنسان» عاطفيًا من خلالهم، فكثيرين يتمنون السفر دومًا، ويتمنون حضور أهم المناسبات الاجتماعية، وأن يكونوا على قدرٍ عالِ من الأناقة والتقدير، والأهم أن يكونوا مشهورين، حتى وإن كان ذلك على حساب القيم. فالشهرة تغذي العاطفة، والعقل لا يغذيه سوى الجهود الكبيرة والأعمال المضنية والتي تستعصي على العامة، فنتجه لفكرة الشهرة، دون التركيز على ما قبلها.

    نتعلم من ظاهرة القتلة العشوائيين أن الإنسان عرضة للتطرف إن لم لكن لديه رادع، ونتعلم أن الظواهر السلوكية قد نكتفي بكونها ظواهر حتى تتحول تدريجيًا إلى هوس، مع الخوف بأن يقود هذا الهوس للتطرف.

    بالطبع ليس لدينا بفضل الله ظاهرة بهذا المستوى من التطرف في مجتمعاتنا، ولكن خشيتي أن ننجرف إلى أي تطرُّفات، حتى وإن كانت أقل بكثير من هذه الظاهرة المشؤومة لدى الغرب.

    وأخشى أن يقوم أحد المشاهير في يومٍ ما برفع مستوى الجرأة وعدم التعقل للحصول على متابعين أكثر مثلًا. أخشى أن تتكرر تجربة الصحوة لتخلق لنا «حور عين» بهيئة جديدة تتمثل في الشهرة ورغبة تسجيل الأسماء في التاريخ.

    الوقاية؟

    هي كلمة السر الثانية التي أشارت إليها بيترسون، المتابعة اللصيقة للسلوكيات غير السوية قد تكون حلًا آخر، ودونهم، قد نشهد مجتمعات مثل مجتمع الولايات المتحدة والذي يسير نحو فقد الذات من خلال هذه الجرائم التي أصبحت أكثر غزارة من أي وقتٍ مضى، وأكثر ميلًا لأجندات تخدم «الديمقراطية الراديكالية» منها للقيم المجتمعية. وربما نشهد دعم مجتمع المثليين هو جوهرة عدم الوقاية هذه الأيام، وهو والله أعلم التطرف القادم الذي سيخلق أشكالًا أخرى من القتلة الجماعيين.

زر الذهاب إلى الأعلى