الشهر: أبريل 2023

  • ما بعد السُبات

    أتحدّث مع صديقي أول أيام العيد ليخبرني أن مهمة العيد في حياة الناس -إلى جانب الطقوس الاجتماعية- هي فصلهم عن الواقع. يحاول أن يقول بأن أي شيء متعلق بالكتابة أو الإنجاز لا يفترض به أن يكون ضمن الأولويات. وبالفعل تحقق هذا الأمر، وتم فقد السيطرة على كل شيء؛ الأكل والنوم واللقاءات الاجتماعية، وعدم ممارسة أي نوع من الرياضة، أو عادة المشي اليومية التي تملك مساحة خاصة في قلبي.

    مشكلتي كانت أن صديقي لم يكن يعلم أنه ومن دون قصد أصبح يُذكّرني بأن هناك شيئًا يجب أن أتناساه، وتحول الموضوع إلى حديث مع النفس: «طنِّش الكتابة.. طنِّش المهام المعلّقة قبل العيد»، وها أنا أعالج حالة السُبات الاختيارية بنوع من التوازن؛ بأن أختار لكلام اليوم أسلوبًا لا يهدف إلى أي نتيجة.

    1. من باب التغيير، قررت البدء في مشاهدة مسلسلٍ تافه لقتل الوقت وشبه محاولة لتضبيط الساعة البيولوجية، ويبدو أن طاقة الانسان مع التقدم في السن لا تملك مخزونًا كافيًا لتحمّل التفاهة. أجبرت نفسي على الحلقة الأولى، وأقفلت التلفاز بعد بعضٍ من التأنيب قبل أن تبدأ الحلقة الثانية، لأكتفي بعدها بالنظر للكتاب المركون على الزاوية دون امتلاك طاقة كافية للقيام والجلوس وقراءة ما ينتظرني فيه. هناك حالة من النوم أثناء الاستيقاظ في هذه الفترة، والتي لا أعلم حقيقة متى ستنتهي. عندما تعشّيت البارحة مع بعض الأصدقاء، شعرت بالغبطة وبعض الحسد بصراحة عندما نظرت لصديقي وهو يتثاءب ويهز رأسه الثقيل من فرط النعاس في الساعة الحادية عشر مساءً، ليستأذن بأدب ويغادر المطعم متجهًا إلى سريره، هذا التثاؤب عملة نادرة في مثل هذه الأيام المستعصية. أعوض هذه النِعمة بالإصرار على بناتي بأن يخلدوا مبكرًا إلى النوم.
    2. بعض اللقاءات الاجتماعية في أيام العيد (والتي أحبها بالمُجمل) أصبحت تستوجب مخزونًا كبيرًا من التحمل، فلا يمكن لإنسان مثلي يحب كرة القدم موسميًا ويشاهد مبارياتها المهمة فقط؛ أن يجلس لأكثر من ساعة يناقش مباراة الاتحاد والهلال ونحن في ثالث أيام العيد، ويناقش قبلها أحوال الطقس، وبعدها أحوال أشخاص انقطعت أخبارهم بسبب انعزالهم عن العالم، وبالطبع أخبار الموتى رحمهم الله. هذه النقطة بالتحديد شجّعتني أن أحاول في كل جلسة أن أقود دفة الحوار وأفتح مواضيع مثيرة، تعطي بعض الزخم وكفاءة أفضل لقتل الوقت، وقد نجحت في بعضها وفشلت في معظمها. وبالنسبة للجلوس مع الكِبار في السن، فإن مواضيع الطلاق والتعدد تُشعِل الجلسة والأدرينالين إلى أقصى درجاته، دون أن يترك آثارًا سلبية طويلة المدى. يعيش الحاضر مؤقتًا وسط فيلم درامي مليء بالأحداث، ولا يتخيل نفسه أحد أبطاله.
    3. الحلويات تُذكّرنا بأن العُمر بالفعل بدأ لا يستجيب بسهولة لقدرتنا بتناول المزيد منها. عندما راقبت نفسي مثلًا، وجدت أنني أُصاب بالمرض بسرعة بعد أن أتناول كمية كبيرة من الحلى، أشعر بعدها إنني نادم على هذه القرارات الغبية بالاحتفاء بهذه الكميات الكبيرة من السكر، وأتناسى الندم في اليوم التالي. لا يوجد في تجربتي حل لهذه الأزمة بالتحديد سوى الروتين المنضبط في اليوم، والذي يقود لقرارات واعية تجاه كل وجبة مع توقيتها المُختار بعناية، والمشكلة الأخرى أننا كشباب يرتدون الثياب فترات العيد، لا نلاحظ تغييرات جذرية في الهيئة، تجد بعض التعليقات من لحظة لأخرى تجاه الوجه الذي يُبرِز بعضًا من راحة البال المتعلقة بالأكل، مع خطورة انتظار فترة الصيف لارتداء الجينز بشكلٍ يومي واستيعاب أن العيد كان عيدين: عيدٌ حضر، وعيد جبناه.
    4. أُصرْ على العودة إلى بيتي في جدة رابع أيام العيد لكي لا يتفاقم موضوع الذنب، ولكي لا تتحول فكرة البحث عن أهميتي في الحياة إلى أزمة وجودية، فالبقاء خارج الظرف المكاني طويلًا يهدد نفسية الإنسان كما أعتقد، ولا بأس في استكمال السُبات والواحد قريب من مكتبه وسريره، لعل بعض البركة تُعيد إشعال نفسها، مثلما جلست تائهًا على كرسي المكتب أنظر على شاشة الكمبيوتر البيضاء، وأدفع نفسي دفعًا لكتابة أي شيء، من أجل صقل العضلة. وها أنا الآن أقترب من الحرف الأخير، أخبر نفسي الآن بأن الرجل الحقيقي والبطل: هو من سيقوم لممارسة رياضة المشي والأثقال بعد قليل.. أو بعد تناول الغداء على أحسن تقدير.

     

  • لا يُفكِّر إلا في نفسه؟

    هذه طبيعة الرجل.

    قبل أن يكون هناك أشخاص آخرين يركبون قاربه.

    لا ينمو الرجل إلا بعد أن يعتاد على التفكير في الآخرين قبل أن يفكِّر بنفسه. ولا يحدث هذا الأمر سريعًا إلا بعد قرار وجود عائلة؛ ثم أصدقاءً حوله.

    إن لم يكن هناك آخرين.. سيكون هناك أشياء.

    الأشياء تستبدل الناس.

    لا زوجة ولا عائلة ولا أصدقاء؟ إذًا سيكون هناك سيارة، وساعة، وعمل، وتلفاز، وربما حيوانٌ أليف.

    عندما يُفكِّر الرجل بنفسه كثيرًا، سيكون لديه فائض من المال والوقت والمسؤولية، تصبح اللحظة هي كل ما يملك؛ وعندما يكون هناك آخرين، يُصبح المستقبل هو ما تبقّى.

    ينمو الإنسان عندما يعي أن لديه مستقبل.. ويموت قليلًا مع كل لحظة دونه.

    ابحث يا صديقي عن قُرب أكثر من عائلة وأصدقاء، ومعهم سيكون كل شيءٍ آخر ذو قيمة أكبر.. لنفسك.

     

  • أفضل طريقة لفهم أنفُسنا

    مقدمة:

    تم نشر حلقة لقائي في بودكاست مربّع مع الأخ العزيز حاتم النجّار. كان كل الكلام من القلب. مثلما اعتدت على الكتابة من القلب. مثل هذه اللقاءات تُعطي لشخص مثلي بعض الحق أن يخبر الآخرين بمخاوفه أكثر من استعراضه.

    تأملت بعد اللقاء خانة التعليقات السلبية والإيجابية، جاحدًا أحد أهم النصائح التي قلتها: «بأن قراءة التعليقات غالبًا ما تكون مضيعة للوقت»، والسبب وتبريري لذلك؛ بأن مثل هذا اللقاء الذي أحاول أن أقول فيه ما لا يُكتب، سيكون مباشرًا.. بتواجدي أمام الكاميرا، وليس خلف الكلمات؛ وربما مع بعض التسلية قد يزداد فهمي لنفسيات وشجاعة المعلّقين السلبيين خلف الأسماء المستعارة، وأيضًا، الخير الموجود في الآخرين بمشاركتهم آراءهم واستمتاعهم باللقاء. كتب أحدهم معلّقًا: «بالله تسموه كاتب هذا؟» وأقول له: لا بأس يا صديقي، البعض يرى ذلك.

    بالطبع أُصِبت بتوتر شديد عندما سألني عن الخسارة الكُبرى، وكدت عدة مرات أن أفقد السيطرة على مشاعري وأنا أحكي عن تجربتي عندما بدأت أقص البدايات والخسارات، وموت والدي، وأرى شريط الذكريات أمام عيني وهو يخرج من كلماتي.

    اعتدت -ككاتب- أن أسمع للناس وأحكي لآخرين ما سمعته، لكن لم تكن هناك عادة منتظمة بأن يسألني أحد في مثل هذا القالب الطويل عن قصتي أمام الآلاف، وبالفعل.. عندما شاهدت اللقاء، استوعبت أن لا شيء يضاهي قدرتنا على فهم الآخرين كالإنصات لهم. وعندما نُنصِت لما نقول، سنفهم أنفُسنا أكثر، وعندما ننُصِت للآخرين، سنفهمهم أكثر. الانصات هو جوهر التواصل.

    المقالة:

    صدر اليوم كتاب جديد عن ستيف جوبز (بعنوان اصنع شيئًا رائعًا)، تم نشره مجانًا على Apple Books وهو من تحرير ليزلي برلين؛ ومقدّمة بقلم أرملته لورين بول جوبز، تقول فيها:

    «أفضل طريقة لفهم شخص ما هي الاستماع إليه مباشرة. وأفضل طريقة لفهم ستيف هي الاستماع إلى ما قاله وكتبه على مدار حياته. توفر كلماته – في الخطب والمقابلات ورسائل البريد الإلكتروني – نافذة على طريقة تفكيره. وقد كان مفكرًا رائعًا.

    يعكس الكثير مما يوجد في هذه الصفحات موضوعات إرشادية لحياة ستيف: إحساسه بالعوالم التي ستنشأ من التزاوج بين الفنون والتكنولوجيا؛ صرامة لا تصدق، فرضها على نفسه أولاً بقسوة وشدة؛ إصراره مع السعي لتجميع قيادة فرق كبيرة؛ وربما، قبل كل شيء، رؤيته حول معنى أن تكون إنسانًا.

    قال ستيف ذات مرة لمجموعة من الطلاب: «يبدو أن لديك فرصة لإشعال النيران في السماء، ثم تختفي.» لقد أعطى قدرًا غير عادي من التفكير حول أفضل السبل لاستخدام وقتنا العابر.

    كان مدفوعًا بفكرة كونه جزءًا من الوجود البشري، متحركًا بفكرة أنه – أو أن أيًا منا – قد يرتقي أو يُسرّع التقدم البشري.

    من الصعب بما يكفي أن نرى ما هو موجود بالفعل، للحصول على رؤية واضحة. كانت هدية ستيف أعظم: لقد رأى بوضوح ما لم يكن موجودًا، وما يمكن أن يكون هناك، وما يجب أن يكون هناك. لم يكن عقله أسيرًا للواقع أبدًا. بل على العكس تمامًا: لقد تخيل ما ينقص الواقع وشرع في علاجه. لم تكن أفكاره حججًا، بل كانت حدسًا، ولدت من حرية داخلية حقيقية وشعور ملحمي بالإمكانية.

    في هذه الصفحات، يقوم ستيف بالصياغة والتحسين. إنه يتعثر وينمو ويتغير. لكنه يحتفظ دائمًا بهذا الإحساس بالإمكانيات. آمل أن تشعل هذه الاختيارات فيك الفهم الذي دفعه: أن كل ما يصنع ما نسميه الحياة صنعه أناس ليسوا أكثر ذكاءً ولا أكثر قدرة منا؛ أن عالمنا ليس ثابتًا – ولذا يمكننا تغييره للأفضل».

    لا أعرف كيف أُعقّب سوى بتعليقي عن افتتاني لسيرته والتي كانت بالفعل غير أسيرة للواقع. عندما نشاهد جوبز وهو يتكلم في لقاءاته القديمة، فنحن نرى مستقبل ما يحاول قوله.. في كل لقاء تقريبًا. هذا الربط الساحر بين ما كان يوجد في خياله وبين واقع المستقبل، يجعل كل واحدٍ منّا يحمل أملًا حقيقيًا بأن الأحلام يمكن لها أن تتحقق، إن رأها في مخيّلته.

    وقبل نسج الأحلام، ربما أدعو إلى فهمها وفهم ذواتنا قبلها.. ننصت في البداية، ونعمل على الإنجاز فيما بعد.

     

     

زر الذهاب إلى الأعلى