الشهر: يوليو 2023

  • عندما ننسى أن البالغين أطفالٌ كِبار (عن تقبّل الانتقاد)

    لا يوجد إنسان يستمتع بالانتقاد.

    لا يستمتع به البشر العاديين، ولا الآباء، ولا الإخوة، ولا الأصدقاء، ولا رجال الأعمال، ولا الأطفال، ولا الفنّانين. هذه حقيقة، حتى إن أقسم أحدهم لي بعكس ذلك.

    «هل أصبحت أسهل؟» تسأل إحدى الكاتبات الشابات كاتب عامود «ذا نيويورك تايمز» الكاتب المتمرّس «ستيفان مارش» عن تجربته حتى الآن مع الكتابة؛ «هل نمى لديك جلدٌ أسمك؟» (أو قدرة أعلى على تحمّل الانتقاد؟)، لم يملك الإجابة على هذا السؤال.

    نفس هذا السؤال طرحه الأخير على الروائي «نيثن إنجلاندر» والذي لم يملك إجابة أيضًا، والذي سأل بدوره الروائي الأشهر منه «فيليب روث»، والذي قال: «سيصبح جلدي أرق وأرق حتى يتمكنوا من إبعادك عن الضوء والنظر من خلاله».

    هل تعلم ماذا يقصد روث؟

    الانتقاد وإن كان قليلًا، سيصبح في يومٍ ما مثل رصاصة الرحمة. ينهي المسيرة بهدوء، دون اكتراث الآخرين.

    يشير دو بوتون في إحدى لقاءاته بأننا أحيانًا نستهين بما يحصل داخل عقل الكِبار عندما نتكلم معهم، فنحن لا نسأل الأسئلة المعتاد سؤالها في تعاملنا مع الأطفال: هل حصل على قسطٍ كافي من النوم؟ هل هو جائع؟ هل يعاني من مشاكل صحية؟ هل هو حزين لأن معلمته كانت قد وبّخته اليوم؟ وفي حالة الكُتّاب الذين ذكرناهم.. إلى أي مدى سيكون الانتقاد مهمًا لهم أو إلى أي مدى سيكون بناءً في عملهم القادم؟

    يذكر مارش في مقالته (رثاء الكاتب: كلما كتبت بشكل أفضل، ستفشل أكثر):

    السرد السائد في الوقت الحالي هو أن الفشل يؤدي إلى النجاح. يحب الإنترنت هذا الاقتباس: منخفض ثم مرتفع؛ المثابرة الأولى، تم العمل عليها؛ كافح. كلما زاد النضال زاد الفداء. أنا أكره تلك القصص.

    لا تخبرني كيف ستسير الأمور كلها. لا تريني كيف أن «جي. كي. رولينج» تخربش كتابها الأول عن هاري بوتر في المقاهي، وهي والدة وحيدة عاطلة عن العمل وتعتمد على [الحد الأدنى] من الرفاهية. قصص مثل هذه مفيدة مثل إعلانات اليانصيب في التخطيط للتقاعد. شخصيًا، شعرت دائمًا بالارتياح لإدراك أن الفشل هو جسد حياة الكاتب، وأن النجاح ليس سوى لباس مؤقت. لكني أطرح على نفسي سؤالاً أعرف أن الكثير من الكُتّاب في فترات مختلفة عديدة، قد سألوه: هل الآن وقت رديء بشكل خاص لكوني كاتبًا، أم أنه فقط شعوري الخاص؟

    ويضيف:

    لا ترتبط قدرات الكُتّاب ومهنهم ببساطة ببعض.

    هناك نوع شرير من السخرية هو الذي قاد الحياة العملية لهيرمان ملفيل. كان كتابه الأول “Typee: A Peep at Polynesian Life” – محض هراء، [وفي نفس الوقت] أحد أفضل الكتب مبيعًا. كان كتابه الأخير “Billy Budd “، وهو تحفة فنية لم يستطع حتى نشرها بنفسه.

    كان مصيره مثل النكتة السيئة. كلما كتب بشكل أفضل، فشل أكثر. اشتكى لمعلمه ناثانيال هوثورن «على الرغم من أنني كتبت الأناجيل في هذا القرن، إلا أنني على ما بدو يجب أن أموت في الحضيض». بعد وفاته، جلست مخطوطة «بيلي بود» في صندوق خبز، لا يعرف عنها سوى عائلته. تم نشرها بعد وفاته، بعد ثلاثة وثلاثين عامًا.

    مات ملفيل كطفل ينشر قصيدة غير منتظمة مع رواية في درجه.

    جيمس بالدوين الذي عانى من العنصرية معظم أيام حياته أخبر أحد الصحف الباريسية عندما سؤل عن تجربته: «اكتب. ابحث عن طريقة للبقاء على قيد الحياة واكتب. لا يوجد شيء آخر ليقال. إذا كنت ستصبح كاتبًا، فلا يوجد ما يمكنني قوله لإيقافك. إذا كنت لن تكون كاتبًا، فلن يساعدك أي شيء.

    حتى هذه الأيام، يجد الكثير من المقرّبين أن ما أقوم به مع كتاباتي مضيعة للوقت. فلا ثروة خلفه ولا رصيدٌ مالي يحفظ كرامة بناتي، إلا أن كرم الله عليَ وحكمته بأن اخترت الأعمال قبل الكتابة لتكون هي الملاذ الأول، وبالطبع ليس الأخير.

    صفحة كاملة في وصيتي كتبتها لبناتي عمّا يجب أن يفعلوه بكتاباتي إن غادرت الحياة، أعيش قبل تقبّل الانتقاد مع خوف أن يذهب كل شيء أدراج الرياح، هكذا هو طمع الإنسان، يريد أن يبقي إحساسه بالفضول مع غيره حتى بعد الموت.

    وعن حال الكِبار في تقبّل الانتقاد، أعرف أن هناك أشخاصًا مثلي في هذا العالم، يتصارعون مع أنفسهم اللوامة لكي يجلسوا ليكتبوا، هم يعيشون دوامة لا تنتهي من انتقاد الذات، دوامة أكبر مع إدراكهم بأن كل الكلمات القادمة ستكون أصعب من الكلمات التي نُشرت. في الحقيقة كل الفنون والأعمال هكذا، يعلم رجال الأعمال أن المليون الثاني أصعب بكثير من الأول، ويعرف الفنانين أن لوحاتهم التالية سوف تُرهِق أحاسيسهم.

    هل تعلم ماذا يقول الرياضيون لك إن قررت أن تبدأ نمط حياة صحي؟

    استخدم السلالم بدلًا من المصعد، ادخل المشي ضمن عاداتك، حاول تدريجيًا أن تُخفف من الأطعمة السكرية؛ حاول أن تتحول من إنسان عادي لإنسان يتحرك قليلًا.

    لكن هل تعلم ماذا يقول المدربين المحترفين للرياضيين المتمرسين؟ جزء من الثانية سيغير حياتك.. سنتعلم الأسبوع المقبل أن نرفع أثقالًا ضعف ما اعتدت على حمله، يوم واحد من السهر سوف يخرّب كل شيء، اعتزل الناس، واضب على البرنامج، اشتري العديد من الأدوات المكلفة.

    تتغير كل اللعبة بمجرد أن تدخل إلى السباق.. السباق الذي اخترته كرياضي في حياتك.

    هل تعلم ماذا تتوقع شريكتك منك إن اعتادت على نمط حياة مكلف؟

    تتوقع مثل أي إنسانٍ طبيعي، المزيد من الرفاه. وفي حالتك، ستتوقع من نفسك أن تكون أكثر عطاءً عندما تتحدث معها. كل شيء.. بالفعل كل شيء.. على ما يبدو يسير بهذه الطريقة. يزداد في صعوبته، أكثر من استمراره على نفس الوتيرة.

    هل تعلم ماذا سيُصيبك إن انتُقدت؟ كل خيالاتك ربما ستختفي تجاه ما حاولت القيام به.

    قبل تقبّل الانتقاد عند الكِبار، أو قبل أن تتعلم كيف تتقبل الانتقاد بنفسك. حاول أن تستسلم للفكرة التي تقول بأنه جزء من هذه الحياة، تجاهله كثيرًا، وتقبّله في قالبٍ منتظم.. عندما تكون مستعدًا له، فلا ضرورة له إن كان سيوقفك عمّا تحاول فعله من الأساس.

    اطلبه.. ولا تستقبله بعشوائية.

    وإن جاء دون طلب، اعتبره حبة دواء تأخذها لتنهي ألمًا مؤقت.


    Reference: A Writer’s Lament: The Better You Write, the More You Will Fail by Stephen Marche.

     

     

     

     

     

  • محاكاة القدوة أسهل من اختراع الطريق

    (١)

    قرأت من مقالة مورجان هوسل «تفاؤل مضاعف» (Compounding Optimism) النص التالي:

    كان ستيف في العشرينات من عمره عندما ذهب للقاء مؤسس شركة «Polaroid» إدوين لاند. وقال: ستيف، «كانت زيارة إدوين لاند أشبه بزيارة ضريح … إنه بطلي».

    أخذ جيف بيزوس الكثير من الأفكار من سام والتون. كما أخذ كل من ستيف وجيف الكثير من الأفكار من شركة سوني.

        تجد دائمًا هؤلاء الأشخاص في المكان الذي تريده، «أوه، لقد اعتقدت أن هذه كانت فكرة لستيف جوبز.» لا.. لا.. إنها فكرة من مؤسس شركة سوني «أكيو موريتا»، أو فكرة «إدوين لاند».

        شاهد العروض التقديمية التي قدمها ستيف جوبز حيث قال: «نحن نبني عند تقاطع التكنولوجيا والفنون الليبرالية.»

    في الحقيقة قال إدوين لاند تلك الكلمات بالضبط!

        لن تجد أبدًا أي شخص يصل إلى قمة المهنة دون دراسة الأشخاص الذين سبقوه والتعلم منهم والإعجاب بهم.

    الجملة الأخيرة ربما تُفسِّر الكثير مما أود قوله.

    (٢)

    في إحدى اللقاءات العامة، قررت أن أختار موضوع المحاضرة عن «سحر المعدّل التراكمي» في حياتنا، وعن تأثيره البالغ في عدة جوانب، منها طبعًا الكتابة، وبناء العادات، والاستثمار، وتنمية المعرفة عند الفرد. تفاجأت من أعيُن الحضور بأنني لم أُحسِن إيصال رسالتي، وبعد عشرين دقيقة لاحظت أن معظمهم فقد اهتمامه بالجلسة تمامًا، ولذا غيرت اتجاه الجلسة إلى فقرة الأسئلة والأجوبة والمناقشة المفتوحة، وبالطبع أصبح ما تبقّى منها مسليًا ومثيرًا.

    تعّلمت قبلها: أن الإنسان يُفتن بالنتائج، أكثر من الإعجاب بالطريق المؤدي لها بكثير.

    ولذا، دائمًا ما أذكِّر نفسي بأن السلوك أهم من الأفكار..

    الكتابة المنتظمة أهم من اختيار المواضيع.

    الاستثمار الممل المنتظم.. أفضل من الدخول في مشاريع مغرية.

    رياضة المنزل المستمرة.. أفضل من الاشتراك في نادٍ فخم.

    عندما ننظر إلى ثروة أحد رجال الأعمال أو المستثمرين المخضرمين، نُصاب بنوعٍ من الإعجاب من النتيجة التي وصل إليها، نفس الرجل إن أخبر شبابًا صغارًا في السن بأن السبيل إلى الوصول لنفس الثروة مثلًا هو: العمل الدؤوب، والاستثمار البطيء، وتقليل الصرف، والقراءات المملة، وبناء الفريق، وأخذ المخاطرة؛ وغيرها من الأمور التي يجب علينا تجربتها لفترات طويلة جدًا، فعلى الأغلب سيكون هناك واحدًا من كل عشرة شباب مستعدين – على أرض الواقع – تجربة كل هذه الأمور، وبالطبع، لا ضمان للنتائج.

    لماذا كل ذلك؟

    لأن الإعجاب بالنتائج بديهي، بينما التركيز على الأعمال التراكمية البطيئة غير بديهي في نتائجه!

    هنا اللغز.

    في حِرفة الكتابة مثلًا، كل ما يتطلبه الأمر انتظام في القراءة والكتابة ومحاولات بطيئة لتطوير الحِرفة، حتى يصل الكاتب إلى نتيجة مرضية في المستقبل. هذا الموضوع على بساطته، هو نفس الموضوع الذي جعل معظم الحضور في الجلسة يشعرون بالملل؛ وقد يكون لسان الحال: «هل تقصد أن عليَ أن أقضي سنينًا طويلة في ممارسة القراءة والكتابة (وعلى الأغلب لن أنجح)؟»

    ربما تكون الإجابة الأكثر واقعية هي: نعم.

    ماذا عن فكرتي في كتابة كتاب؟

    تستحق المحاولة، ولكن أغلب الظن بأن الكتاب لن ينجح، هذه الواقعية قد تكون صادمة، إلا أنها تظل واقعًا، وليست تعاطفًا.

    (٣)

    أفضل طريقة لتقصير وقت المعدّل التراكمي وزيادة فاعليته في رأيي هو: المحاكاة.

    تريد أن تُصبح رياضيًا ناجحًا: حاول أن تُقلِّد ما يفعله بطلك في هذا الأمر.

    تريد أن تصل إلى نتائج استثنائية في رسوماتك: حاول أن تحاكي فنّانك المفضل. لفترات طويلة، مع محاولات جانبية للتطوير.

    نفس الأمر ينطبق على الأفكار، والأعمال وكل الممارسات..

    أعتقد إننا نُعطي موضوع العصامية (حتى في الأفكار) ثقلًا ليس له داعٍ. فالأفكار بطبيعتها تراكمية، تأتي من أشخاص آخرين في هذا العالم سبقونا إليها، ومهمّتنا أن نجمع تراكمها ثم نطوِّر عليها، بدلًا من التركيز طيلة الوقت على الابتكار.

    وورن بافيت حاكى طريقتي بين جراهام وفيليب فيشر في «استثمار القيمة». ثم طوّرها فيما بعد مع شريكه تشارلي منجر.

    جيف بيزوس حاكى سام والتون (مؤسس وول مارت) وشركة سوني. ثم ركّز أكثر على تقليل تكاليف الشحن.

    توماس أديسون حاكى أفكار وطريقة عمل الفيزيائي مايكل فارادي الذي توفي عام ١٨٦٧م.

    في تجربتي الشخصية، لم أعرف كيف كُنت سأبدأ إن لم يكن هناك كُتّاب مفتون بأسلوبهم، ومعجب بكتاباتهم، وآخرين.. كُنت مفتونًا بغزارة انتاجهم.

    الخلاصة:

    ربط التراكم؛ أو العمل ببطء وانتظام. ومحاكاة المبدعين الآخرين (أو حتى تقليدهم) أفضل عدة مرات من اختراع طريق جديد.

     

زر الذهاب إلى الأعلى