الشهر: أغسطس 2023

  • ما يتوقّعه المدون من القارئ

    دون مقدمات.. هناك أمرٌ يشغل بالي منذ فترة، وربما أجد الحل مع القارئ الكريم.

    تزداد صعوبة الكتابة أكثر فأكثر، ليس لأنها تقنيًا أمرٌ صعب، بل لإحساسي برهبة القارئ الذي أتخيّله وهو يقف أمامي يقرأ ما أكتبه. الصعوبة تستدعي الاستحضار الدائم له، وهنا يولد نوع من التناقض، فالغزارة (في الكتابة) هي أم الجودة، ودائمًا ما كُنت أستغرب أن الكثير من الكتابات البسيطة تُصبح بشكلٍ غير متوقع ذات تأثير أكبر من الكتابات العميقة على مزاج وردة فعل القارئ، النقيض من الطرف الآخر هو المحاولة المستميتة لعدم جعل القارئ لكل ما أكتب يعتقد إنني أستخف به أو بعقله معاذ الله، ولهذا لا أعاني من نقص المواضيع التي أُفضّل الكتابة عنها (أو ما يُسمّيه النخبويون حبسة الكاتب  Writer’s Block) بل لاعتقادي أن القارى يجب أن تُستعرض أمامه أفكارًا واضحة وصلبة وعميقة، وهذا بطبيعة الحال يتعارض مع فكرة الانضباط والاستمرارية عند الكاتب، فهو يجب أن يكتب. احم.. أي شيء يخطر على باله وإحساسه!

    خذ مثلًا مدونة أحد أشهر اقتصادي العالم «تيلر كوين»؛ يكتب عن المطاعم، والسياسية، وأمور بسيطة، وأخرى شديدة العمق، وأحيانًا أخرى يكتب اقتباسًا واحد يرى أنه يستحق أن تُخصص له صفحة كاملة فارغة حولها ليركز القارئ فيه.

    أنا من أشد المعجبين به، سلاسة قلمه قدوة يحتذى بها بالنسبة لي، وهذا ما يتعارض مع اعتقاد آخر أيضًا حمّلت نفسي مسؤوليته بشكلٍ ليس له داعٍ، أن هناك فرقٌ شاسع بين الكتابة المنتظمة والنشر المنتظم، ولو إنني أميل مع النشر المنتظم دومًا.

    لا أميل لمُسمى «صانع محتوى»، وأميل أكثر للتسمية الأكثر دقة على الطراز القديم: كاتب، مخرج، رسّام، يوتيوبر (استثناءًا)، طبّاخ، صحفي، روائي، محاسب، مصارع إلخ. وأجد نفسي محبًا ومخلصًا للكتابة أكثر من أي أمرٍ آخر، ولهذا أجد نفسي ملزمًا بأن أكتب دومًا دون توقّف.

    في أحد المرات كتبت تعليقًا سلبيًا مطولًا عن أحد المطاعم (أصبحت قبلها Local Guide محترمًا في خرائط جوجل من كثرة التعليقات والتقييمات)، للحظات كدت أن أنشره للآخرين، ترددت خشية أن أرى سيلًا من إلغاء الاشتراكات من مدونتي، ولا يستطيع قلبي أن يقول «براحتكم» ومع ذلك فإنني أخون نفسي جزئيًا، بعدم التعبير للدرجة الأقصى.

    أمرٌ آخر، وهو مثلًا بحثي الغزير وقراءاتي الكبيرة في مجال العلاقات الإنسانية مؤخرًا: بين الوالدين وأبناءهم، وبين المطلّقين، وحديثي العلاقات الرومنسية، الفروقات بين الجنسين وغيرها. عدة قناعات وأفكار جديدة تشكّلت بسببها اعتقدت أنه من الأجدى الكتابة عنها، ولكن.. يظل القارئ مع رهبته لا ينفك أن يظهر لي، فأنا إن كتبت عنها قد أحكم على كتاباتي الأخرى بالإعدام.

    وهنا أتقدّم للقارئ القديم قبل الجديد بسؤال المليون ريال: هل سيفوتك الكثير إن لم يُكتب عنه؟

     

  • ماذا بعد العودة؟

    يحكي لي زميلي البارحة عن زوجته التي بكت عندما قرروا العودة من رحلة إجازة الصيف في «بالي» بعد أن قضوا قرابة الشهر فيها. «كيف نترُك الخضرة والبحر وكل هذا الجمال.. هكذا؟» تعلّق مبررة حزنها.

    لا يسع الإنسان إلا للعودة إلى حياته الطبيعية مهما طال غيابه، الطِباع والعادات المكتسبة والحياة التي نتوقع انسجامنا السريع بعدها لا تتطور بالقدر الكبير الذي نتوقعه منها، القليل فينا يتغيّر مع مرور الوقت، وتظل أساسات على ما اعتدنا عليه يومًا بيوم هي المسيطرة على نمط الحياة.

    تعود المخاوف والهموم والطموحات والأحلام عندما نعود لأماكننا؛ وفي حالة زميلي والكثيرين، يستبدل الكسب والبحث عن الرزق الوقت الأكبر في عمرنا، ليتبقى القليل لنستمتع بالتغيير المؤقت فيه.

    يتهكّم النفساني جوردن بيترسون على الصورة النمطية لحلم الإنسان الغربي بقضاء ما تبقى من العمر بعد التقاعد على شاطئ البحر وهو يشرب العصير المنعش، بسؤاله: «جلست على البحر، وشربت العصير، ماذا بعد ذلك؟»، ثم يسترسل بعدها عن ضرورة امتلاك الإنسان لمعنًا أكبر في حياته بدلًا من التفكير في النهايات السعيدة أو فترة ما بعد التقاعد. فالمعنى هو ما يُعطي قيمة لحياة الإنسان وشغفًا أكبر من اللذة التي تنضب سريعًا بطبيعة الحال، وإلمام النفساني الشهير «فيكتور فرانكل» بهذا الأمر هو ما جعله يفهم النفس البشرية التي كما يقول: «تُلهي نفسها بالملذات، عندما لا تجد معنى لحياتها».

    أذكر عام ٢٠١١م عندما قمنا بزيارة مدينة «آنسي» جنوب فرنسا، كُنت بالفعل منبهرًا بالطبيعة والجبال والبحيرة وصِغر المدينة الساحر. وبعد أربعة أيام سألت نفس السؤال: وماذا بعد؟ وسرعان ما قررنا استكمال الرحلة إلى مدينة كبيرة بعد أن قضينا اليوم الأخير في الفندق دون أنشطة.

    يتشكّل المعنى في نظري بأمرين أساسيين بعد إيمان الإنسان المُطلق بدينه ووحدانية خالقه وهم: العائلة والدائرة الصغيرة، والعمل أيًا كان، فلا يوجد عمل لا يفيد إنسانًا آخر بالضرورة. يبقى الحفاظ على استمرار الدائرة المحيطة هو الهدف الأسمى لمعنى الحياة، في حين أن التطور، والكسب، وتغيير حياة الآخرين هو الهدف الأسمى من العمل.

    لا بأس بالانقطاع المؤقت دومًا.. فدونه لا يكون هناك جهدٌ مسخر لأي معنى.

    عودًا حميدًا للجميع.

زر الذهاب إلى الأعلى