سيكلوجيا الإنسانشؤون اجتماعية

هل فعلاً يعاني ٩٠٪ من السعوديين مشاكل نفسية؟

ولدت فكرة هذا التساؤل بعد أن قامت والدتي بسؤالي قبل أيام «هل سمعت مؤخراً عن الرجل الذي طعن والديه حتى الموت؟ .. رأيت تقريراً عنه في MBC» وعندما أجبت بالنفي، أكملت: «يقولون في التقرير أن أكثر من ٣٠٪ من السعوديين يعانون من أمراض نفسية بمستويات مختلفة … وهذا القاتل أحدهم!»، وبنوع من التهكم قررت أن أقفل التعليق بردي أنه ربما يوجد أكثر من ٥٠٪ من أفراد المجتمع لديه «مشاكل نفسية» دون أي محاولة للفلسفة أو القيام بتحليل منطقي أو علمي على إجابتي أو سؤالها.

ليس المكان هنا لأستعرض مشاكل الشارع التقليدية مع الآخرين والتي يعرفها القارئ الكريم سلفاً، وربما يواجهها بشكل يومي في حياته مع مختلف أطياف المجتمع. بل أود أن أحاول البحث عن إجابة لهذا التساؤل من زاوية مختلفة وواقعية إلى حدٍ ما، ربما تصور مكان الخلل لتعطي مساحة للتفكير على كل التصرفات التي تجعل البعض مقتنعين أن البقية يعانون فعلاً مشاكل نفسية، فأنا وأهلي وأحبائي وأصدقائي نمثل جزء من هذا المجتمع، الذي يشكل بدوره مجموعات كبيرة من الدوائر المغلقة مثل دائرتي، وبطبيعة الحال لن يسرني أن يتهمني أي شخص أنني ببساطة أعاني من مشكلة نفسية … أو بأنني مريض -لا قدر الله- مع العلم أنني أقدر وأحترم وأحب فكرة اللجوء لمستشاريين نفسيين وأسريين من أجل البحث عن بعض الحلول المبهمة في حياتنا.

على كل حال، سأنتقل إلى صلب الموضوع بقصة خيالية لم تحدث بجميع تفاصيلها كما سأحكيها…

يدخل أحمد على بعض الأصدقاء في المقهى (عددهم ٥)، يُسلم عليهم ويرتجل بالحديث حول بعض مستجدات حياته.

يبدأ مع الموقف الأول الذي واجهه أثناء إجازته في اسطنبول.

– أحمد: يا شباب حصل شيء غريب في رحلتي الذهاب والعودة، كان يوجد هناك نساء متغطيين بالكامل (عبائة + نقاب) مع أزواجهم وعائلاتهم أثناء الرحلة، كُنت أذكر أن «المتغطيين» كانوا حوالي عشرة نساء، لكن عندما وصلنا لاحظت أنهم تحولوا إلى إثنتين فقط! .. وانقسم معظم النساء البقية إلى نساء غير محجبات مع ملابس عادية مثل الأجانب، وبالطبع هناك بعض النساء الأخريات الذين التزموا بحجابهم العادي قبل وأثناء وعند وصول الرحلة. شيء غريب … لا أفهم هذا التناقض! … لماذا يغطون بالكامل عن رجالنا، وعندما يصلون هناك يكشفون تماماً أمام رجال الأجانب؟ … وبالنسبة للأجانب، هل من المنطقي أن يذهب هؤلاء المنقبين إلى خارج المملكة حاملين معهم عاداتهم ولباسهم الملفت؟ … أرى أن الشعب يعاني من عقدة التناقض، وبعض المشاكل النفسية الأخرى!… على كل حال لا يوجد مثل أهلي، فهم يلبسون نفس لباس الحجاب أثناء الرحلة وعند الوصول … وأحمد الله أنهم لا يعانون نفس هذه المشاكل النفسية /الاجتماعية التي لدى بقية المجتمع!. (ليقتنع أحمد أنه وأهله هم الأصلح في هذا المجتمع)

يرتبك الصديق رقم «٥» و«٢» من هذه القصة، ليقوم رقم ٥ بالرد … «يا أخي شعبنا مريض، ولا يصدق أن يرى إمرأة «كاشفة» حتى يقوم بأذيتها أو تجاوز الحدود تجاهها، وربما بالنسبة لبعض النساء … أجدهم يتخذون السفر كفرصة ليعيشوا حياتهم كما يريدون بعيداً عن ضغوط وقوالب المجتمع الذي فرض عليهم مسألة الكشف والغطى، وأجد أن هذا الأمر عبارة عن حرية شخصية لدى كل الفئات من النساء وعوائلهم التي ذكرتهم». وينهي بذلك التعليق.

رقم ٥ و٢ من الأصدقاء كانوا في الحقيقة أزواجاً للفئة الأولى المذكورة (لكن في رحلات أخرى إلى أوروبا) ولا يمانعون أن تكشف زوجاتهم شعرهم طالما أنهم خارج البلد، وقد ساهم هذا الأمر بارتباكهم قليلاً لشعورهم بالهجوم أثناء دخول أحمد، ولحرجهم بعلم الصديقين رقم «٤» و«٣» لهذه المعلومة المتعلقة بالكشف والغطاء عن زوجاتهم دون فهم وجهة نظرهم في الموضوع. على كل حال يذهب الصديقين ٥ و٢ إلى البيت بعد الإنتهاء من جلسة المقهى ليخبروا زوجاتهم أن أحمد لديه مشكلة نفسية (ويبالغ رقم ٢ باتهام أحمد أنه شخص ديوث لما يفعله بترك زوجته وإخوته بكشف وجووهم أو شعورهم في بعض الحالات) وأن أحمد يراقب ما يقوم به الآخرون أثناء سفرهم دون تركه ما لا يعنيه في إجازته.

نعود بسيناريو آخر لبداية القصة عندما دخل أحمد على أصدقائه، ونبدل الأحداث إلى موقف آخر وهو سرده لحكاية ابتعاث إبنة أخته لوحدها وهي إبنة الـ٢٣ عاماً إلى الولايات المتحدة بمفردها بغرض دراسة الماجستير، ليقوم الصديق رقم «٣» بالتعليق: «ليس لدينا بنات يسافرون لوحدهم … كيف تتركون يا أخي إبنة صغيرة تسافر لوحدها دون محرم؟ .. فهذا غير مقبول شرعاً … إضافةً إلى وجود عدة احتمالات غير سارة قد تحدث للبنت أثناء رحلتها، مثل تعرضها للتحرش أو استسلامها للملهيات هناك دون رقيب!» ليرد أحمد أنه متأكد من حُسن تربية أخته لإبنتها. بل بالعكس .. يرى أنها فرصة حقيقية لجعل البنت تعتمد بشكل أكبر على نفسها في حياتها ودراستها. ينتهي تعليق الصديق رقم ٣ … بـ «الله يوفقها ويحميلكم هيا»، وليعود الأخير إلى بيته بعد انتهاء الجلسة ويحكي لأهله جنون صديقه أحمد الذي لم يمانع تصرف أخته بترك إبنتها تُبتعث بمفردها … ويخبرهم أنه شخص «جُن في عقله» ولا يمكن له أن يرسل إبنته ريم وهي بنفس العمر إلى أي مكان دون محرم.

شاهدي من القصتين الخيالية … أن أحمد يرى اعتراضات الأصدقاء عبارة عن مشاكل وتراكمات نفسية دينية غير مبررة قد تكونت مع السنين حتى وصلنا إلى عام ٢٠١٦، ويرون في المقابل ببساطة أن أحمد ليس إنساناً واقعياً في قصصه وليس واقعياً باستيعابه لمشاكل المجتمع، بل أنه في بعض الأمور لا يعطي أي اعتبارات للدين وللروابط الاجتماعية. سيعلق أحد المراقبين للقصص أن هذه التصرفات ما هي إلا إحدى العديد من التصرفات الأخرى التي ينقسم اتجاهها أبناء المجتمع بين موافق ومعارض أو «موافق بشدة ومعارض بشدة» مع حمل كل واحدٍ فيهم لتبريراته الخاصة.

يمكن إسقاط سيناريو ثالث يدور حول رغبة أحمد بدعوة أصدقائه مع زوجاتهم إلى مطعم جديد على العشاء، مع عدم تقبلهم (أو بعضهم) للفكرة.

ويمكن إسقاط سيناريو رابع حول تعامل السعوديين القاسي مع الخادمات في المنزل، ليعترض الصديق رقم «١» بأن هذه الجنسيات لا يفلح معها شيء سوى التعامل القاسي، مستشهداً بالعديد من القصص القديمة حول ذبح الخادمات لأبناء مكفوليهم، وأنهم يعانون من مشاكل نفسية منذ قدومهم من بلدانهم، لا يمكن السيطرة عليها إلا بالقوة.

أترك للقارى الكريم بعض المساحة من الإبداع ليقوم بحبكاته الدرامية حول أي قصة أو موقف أو قناعة دينية أو اجتماعية قد يطرحها أحمد على طاولة المقهى، ولرد الآخرين المتوقع حسب قناعاتهم أو في بعض الحالات غير المعلن والمكتفي بصمت الأصدقاء.

سفر البنت بمفردها … تعامل الخادمات … الكشف والغطاء .. مصادقة الكُفار … قيادة المرأة … رفض المبتعثة السعودية محادثة زميلها السعودي … وغيرها المئات من القضاية والاختلافات التقليدية التي تحتمل الكثير من الإبداع عندما نحاول أن نتخيلها في سيناريو مثل السيناريوهات المذكورة مع ردود أفعالها التي غالباً ما يصاحبها الكثير من الهجمات والمحركات الإيمانية أو مجرد قناعات.

وشاهدي من هذا الكلام هو … دعنا نتخيل صديقي العزيز أن الأشخاص الذين في المقهى هم من جنسية أخرى -لنقل أنهم من الإخوة اللبنانين مثلاً – هل تعتقد أن مثل هذه الأطروحات والردود ستكون نفسها؟ بل هل ستكون هناك مشاكل أصلاً في تفاصيلها… وهل سيدعي أحدهم أننا شعب ذو صبغة اجتماعية ودينية خاصة؟ … الله أعلم. لا أبالغ إن قلت أن الكل سينظر للآخر (في السيناريوهات المذكورة) أنه شخص يعاني من مشكلة نفسية (أو دينية أو اجتماعية) في حال تبنيه لأي قناعة لم يعتد عليها المجتمع. لتتكرر مثل دائرة أحمد وأصدقائه في جميع مناطق المملكة بمستويات مختلفة ويبقى شغف المراقبة والحكم على الآخرين هو المحرك الأول لدى جميع الأطياف تقريباً. وبمجرد اقتناعنا بهذا الأمر ربما سنبتعد عن ترديد الكلمة البديهية «يا أخي لا تعمم!» لنصل إلى صلب الموضوع حقاً … عبر التركيز أولاً بعدم المراقبة والحكم.

يتعدى مفهوم المراقبة والحكم على الآخرين إلى سهولة اتخاذ أي فرد يعيش معنا بأحقية التدخل وإبداء النصيحة تحت مفهوم «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» حتى وأن لم يكن للموضوع صلة بالدين ويكون تحت قناعة أن «النصيحة واجبة من منطلق المحبة والمعزة» متناسياً أن الآخرين كِبار وواعيين وربما يفوقونه بالعلم والمعرفة، بل ويظل المتابعين الاخرين داخل اقتناعهم أن لا يوجد مشكلة حقيقة من النصح أصلاً أو التدخل طالما فيه نية صلاح.

ويلفتني شخصياً أن أحد أهم الأمور وهو إعجابنا بالمجتمعات الغربية عندما نعلق عليهم بـ «أنهم  لا يتدخلون في شؤون الغير»، مع أن هذا الإعجاب سهلاً في ذكره، وصعب جداً في تطبيقه حتى على أقصى الأشخاص وعياً وإعجاباً به، لأننا ببساطة نحارب شيئاً أصبح غريزياً فينا وهو «النشأة» … فقد نشأ المجتمع على المراقبة والحكم على الاخرين، بمختلف ثقافاته، ومهما حاولت دفع هذا الأمر، ستكتشف أن محاولاتك بآت بالفشل، لينتهي الأمر بحكم أخيرعلى الآخرين لا تستطيع أن تغيره داخلك  … مع اقتناعك في بعض الحالات أن لديهم مشاكل نفسية، ويرون هم بدورهم أن لديك أنت أصلاً مشكلة نفسية في أمر ما …

وسيكون صمت أحمد عن أي قصص أو مواقف هو الأصلح، ليتفرغ بانتقاد الشركات والمنشآت الحكومية وفرق الكورة عوضاً عنها كمحل للنقاش.

ويصبح المجتمع بنسبة ٩٠٪ يرى بعضه البعض أصحاب مشاكل نفسية إن قرر أحمد استكمال النقاشات المثيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أحمد مشرف

كاتب ومدون سعودي، مؤلف كتاب ثورة الفن، وهم الإنجاز، ومئة تحت الصفر، وعبور. شريك في بعض المشاريع الصغيرة. مقيم في جدة.
زر الذهاب إلى الأعلى